الحياة الرقمية: صدمة التحولات الثقافية العاصفة

img

أحد أبرز الظواهر السلبية للحياة الرقمية، أنها ساهمت في تراجع نسبي لبعض أنماط الفنون والموسيقى والغناء والأدب والمسرح والسينما التي كان يطلق عليها “الثقافة الرفيعة” في النصف الأول، وحتى عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وخاصة مع ثورة الاستهلاك المفرط، وواسع المدى في المجتمعات الرأسمالية الكبرى في أوروبا، والولايات المتحدة وكندا.

السلوك الاستهلاكي المكثف، لم يسلع الحياة اليومية فقط، وإنما أمتد إلى التشيوء الإنساني، ومن ثم شكل ذلك تحولاً في مفهوم المعنى في وحول الحياة، ومسألة الوجود الإنساني، وأدى ذلك إلى ارتباكات في المعنى وخاصة ارتباطها بالاستهلاك ومفهوم اللذة، والرغبات الجامحة، ومن ثم انعكست النزعات الاستهلاكية على الثقافة – وفق معناها الأنثرسوسيولوجى العام – القيم، والمورثات، والأخلاق والتدين الشعبي، وأساطير الحياة اليومية – وفق رولان بارت – والعلاقة بين الإنسان وجسده وحواسه ومشاعره، وعلى معاني ومفاهيم الزمن، والجمال، والحب، والصداقة، والعمل، والجنس، ومفهوم اللذة، ونظام الزي، والطعام والشراب ومفهوم المكانة.

التسليع والتشيوء الإنساني والاستعراضات والتمثيل، أدى إلى تحول كل ما هو حقيقي، إلى استعراضات في السلوك الإنساني – وفق جي ديبور في مجتمع الاستعراض – وهو ما أدى إلى التحول من الحداثة إلى الحداثة الفائقة، وفق السوسيولوجي البارز زيجمونت باومنت، أو ما بعد الحداثة، أو الشرط ما بعد الحداثي لدى الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار، وإيهاب حسن في تطويره لما بعد الحداثة، في دراساته النقدية البارزة التي أثرت في النظريات النقدية في هذا الإطار كونياً.

التحول ما بعد الحداثى، وما بعد بعده في مرحلة الما بعديات أدى إلى التأثير على تشكلات الثقافة في الشمال وامتدت تأثيراته إلى بعض الثقافات الآسيوية، ودول أخرى في جنوب العالم حيث تداعت ووهنت السرديات الكبرى والحقائق المطلقة إلى تشظي وتذري ونسبية الأفكار والحقائق ولم تعد هناك حقائق مطلقة خارج المقدس لدى المتدينين.

أثر التسليع والاستهلاك للسلع والخدمات، على الثقافة، والانتقال على سبيل المثال إلى الموسيقات الشعبية، والعرقية، وخاصة في ظل هيمنة الثقافة الأمريكية، وامتدادات تأثيرها في أوروبا، والعالم من حيث شيوع ثقافة البوب، والكانتري سايد، وأيضاً قبلهما الجاز والبلوز. الأهم أن التسليع في عصر السرعة الفائقة – سمت عالمنا الآن – أدى إلى تمدد الموسيقى السريعة والإيقاعات الصاخبة والمرقصة السريعة، والكنتاكي، والماكدونالد – ومكدلة العالم دلالة رمزية على العولمة – وأحد تعبيراتها في ثقافة الوجبات السريعة.

في نظام الزي لم تعد تصميمات الموضات المتغيرة حكراً على بيوت الأزياء الفرنسية، والإيطالية، والبريطانية، واقتناء السراة في العالم لها، وإنما تم التحول إلى نظام زي مواز وواسع الاستهلاك من البنطلون الجينز، والفانلات، التى تحاكى علامات بيوت الأزياء الشهيرة، وباتت التصميمات مشابهة لها في البلدان الجنوبية، وخاصة التي يتم إنتاجها في كوريا الجنوبية، والصين، وإندونيسيا، بأسعار زهيدة، ومستويات مختلفة ومتشابهة من ذات الزي للرجال، وأيضا للنساء والفتيات والشباب والأطفال كل بحسب قدراته المالية.

عولمة الزي، والأكلات السريعة، مع الموسيقات السريعة كان تعبيراً عن تحولات في بنية المجتمعات الرأسمالية الكبرى، وأثرت على الذائقات الفنية، وفى الملبس والمأكل والمشرب، وأدى إلى تغيرات حتى في أنظمة الأكل، والطهي في عديد من دول جنوب العالم، في ظل شيوع الأكل السريع Fast food.

في الأدب حدث تغير في خرائط الإبداع الروائي، والشعري، والمسرحي الكوني، وتحول الاهتمام إلى الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، وكتابها وشعرائها العظام. بعد ذلك حدث تحول نحو أدب وروايات المبدعين المهجني الثقافة الأوروأفريقية، والآسيوية الذين عاشوا في أوروبا، وبعض الأدب الآسيوى.

هذه التحولات النوعية أدت إلى هيمنة ثقافة الاستهلاك السريع، وباتت الفنون والثقافة الرفيعة جزءاً من اهتمام الأجيال كبيرة السن، وبعض الشباب، إلا أن الأغلبيات من الأجيال الجديدة في عقد التسعينيات كانت ذات ذائقات، وأنماط استهلاكية سريعة، شكلت جزءاً رئيساً من حياتهم اليومية، وعلى مسألة المعنى، والترفيه، والمتعة السريعة، والحياة للحياة – وفق الفيلم الفرنسي ذائع الصيت للمخرج كلود ليلوش – والعلاقات العابرة بين الرجال والنساء، وخاصة الشباب.

في السينما، كانت السينما الفرنسية، والإيطالية، والتشيكية – أيام الحرب الباردة – تعتمد على اختيارات وراءها فلسفة عميقة في السردية السينمائية، وفى اختيارات الممثلين، وكتاب السيناريو والحوار، والأهم كبار المخرجين في الواقعية الإيطالية الجديدة، والموجة الجديدة الفرنسية. تم تجاوز هذه المدارس السينمائية مع مجتمع الاستعراض، وهيمنة السينما الأمريكية – وغالبها استهلاكي وبسيط مع استثناءات محدودة – على عيون العالم المفتوحة وهو ما ساد مصرياً في سينما المقاولات والسينما “النظيفة” تلبية لنمط الإستهلاك الخليجي بعد ثورة عوائد النفط!

السؤال ما الذي أحدثته الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي على ثقافات عالمنا المتعددة في شمالها وجنوبها؟.

تمددت ثقافة الاستهلاك في الواقع الفعلي، واتسعت مع التطورات التكنولوجية، والرقمنة، والذكاء الاصطناعي، إلا أن الاستهلاك الفعلى للسلع والخدمات مع النيوليبرالية الجديدة ذات الطابع الوحشي، أدت إلى توظفيات للثورة الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي تفاقم وتكثف النزعات والسلوك الاستهلاكي، وقامت الشركات الرقمية بتوظيف المعلومات الضخمة وماتحمله من دوافع ورغبات وتطلعات، وتصنيف، وتحليل، المعلومات والمواد الرقمية الضخمة Big Data لمعرفة خرائط الرغبات، والتفضيلات في كل مجتمع ومناطق جيوسياسية، وجيوثقافية، وجيودينية، وما وراءها من دوافع وإعادة تصنيفها، وتحليلها، وتسويقها للشركات الكونية الكبرى كي تستفيد منها، وتحدث تعديلات في سياساتها الإنتاجية، والخدمية لكي تشبع هذه الدوافع والرغبات، والتفضيلات في كل تفاصيل الحياة اليومية، أو تحفز على تفضيلات، ورغبات استهلاكية جديدة ومختلفة. الأخطر أن الشركات تستخدم الحياة الرقمية لإحداث تغيرات في الدوافع والرغبات لدى قطاعات، ومجموعات إقليمية، وكونية من الجموع الرقمية الغفيرة، من خلال مخاطبة الحواس الاستهلاكية لهم، من خلال سلع وخدمات جديدة مختلفة عما كان سائداً في الأسواق.

بات السوق الرقمي الكوني، والإقليمي، والوطني في أقاليم العالم كافة، موضوعاً للتأثير على أنماط السلوك الاستهلاكي الذي يلبي رغبات هذه المجموعات من الجموع الغفيرة بات توجيه، وتحفيز الاستهلاك على الحياة الرقمية سمت عالم متحول، وبسرعة فائقة.

أدت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ظواهر ثقافية رقمية جديدة، يمكن رصد بعضها فيما يلي:

1- الكتابة الرقمية الوجيزة، التى أثرت على الكتابة، واللغة وأيضاً الروايات، والقصص، وبروز ما نطلق عليه الكتابة الومضة، والفيديو الطلقة بالغ الإيجاز، والسرعة.

2- الجمل الموسيقية السريعة، وتفكيك الأغنيات إلى جمل، ووصلات موسيقية أو غنائية.

3- مشاهد من الأفلام الشهيرة، وفق تفضيلات من يضع هذه المشاهد على صفحته ومنشوراته، أو تغريداته أو على الإنستجرام أو التيك توك.

4- استخدام الفيديوهات السريعة في تقديم بعض وصفات نظام الأكل في داخل كل مجتمع، وتاريخ سوسيولوجيا مطبخه، والمطابخ الأخرى في الإقليم، وثقافات الطبخ المتعددة عالمياً. وهو ما يؤدي إلى خلق طلب وذائقة على أنظمة الأكل في الثقافات الأخرى، وإجراء تعديلات، وتهجينات على وصفات الأكل داخل كل مجتمع.

5- استخدام مفرط للــ Reels، في اصطناع وتوليد الإثارة الجسدية للنساء، وفى بعض المواقف التمثيلية التى تعتمد على المفارقة، والتناقضات، والغرابة والمفاجأة، والدهشة، والضحك وذلك سعياً وراء الحصول على التفضيلات Likes/ Love، ومعها السعي للحصول على الأموال من الشركات الرقمية الكبرى.

6- تحويل كل ما هو غريب وكان يُعد جزءاً من معايير ثنائية الجمال، والقبح، إلى أن ما كان يعد قبيحاً ذكورياً وأنثوياً لم يُعد كذلك، وأن الجميع، ولاسيما من النساء هن جميلات بقطع النظر عن ضخامة الأجساد، أو ملامح الوجوه، أو اللون أو العرق، أو عدم التناسق في المكونات الأنثوية بات يُعد جميلاً، وهو ما يعني نهاية مفهوم الجمال الذي ساد مع الحداثة تاريخياً!

7- أتاح الـ Chat GPT الفرص أمام بعضهم لتوظيفه في أعداد الأطروحات العلمية العليا، وأيضاً في بعض الأفكار والاقتباسات من الروايات والأفلام الغربية أو الآسيوية أو اللاتينية..الخ، وينسبها بعضهم لنفسه في أعمالهم السينمائية والروائية.. إلخ! امتد انعكاس، ودور الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى صناعة السينما، والسيناريو والحوار، بل وفى عمل أفلام وجيزة/قصيرة اعتماداً على الذكاء الاصطناعي التوليدي.

8- استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، في إنتاج لوحات الفن التشكيلي، وفي التأليف الموسيقى، والمؤثرات الصوتية في الأفلام.

لا شك أن أثر الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والحياة الرقمية فائقة السرعة، سوف تؤثر على مسارات الثقافات المتعددة على المستوى الكوني، وعلى نهاية المقاربات الحداثية، وما بعدها، وما بعد بعدها في تناول الظواهر الجديدة، من حيث بنية النظريات السوسيولوجية، والفلسفية والسياسية، والنفسية، والأنثربولوجية، في رصد وتحليل الظواهر الجديدة في عالمنا، وسوف يؤدي ذلك إلى مناهج، ولغات وآلات اصطلاحية جديدة، ومختلفة تماماً، وهو ما يعني تحولات جذرية، وقطائع معرفية سريعة مع ما اعتاد عليه العقل العلمي، منذ الحداثة، وما بعدها، وإلى الآن.

هذا التحول يتطلب إعادة النظر نقدياً في العقل العربي لاسيما النقلي السائد عربياً، في السياسة، والدين، والعلوم الاجتماعية، والطبيعية، ومتابعة التحولات الصدمة لما هو مألوف عربياً، ومتابعة التحولات الجديدة من منظورات نقدية، ومحاولة التكيف معها لمواكبة عالم من الصدمات والسيولة والاضطراب.

المصدر: الأهرام


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة