القانون والحرية والرقابات الرقمية المتبادلة
أدت الثورات التكنولوجية الأربعة إلى تحولات كبرى في الاقتصادات الرأسمالية الغربية، وخارجها، وفى انساق القيم والأخلاقيات، وفى الثقافات الكبرى، وفى الأنظمة القانونية المختلفة، وفى العلاقات الدولية، والأنظمة السياسية الليبرالية. التكنولوجيا ليست محض آلات، وأجهزة، وإنما تحمل في أصلابها قيم، وأفكار، ثم تتحول بعد ابتكارها إلى محركات جديدة لقيم جديدة مختلفة، وتؤدي إلى تفكيك وتحطيم قيم سابقة باتت تقليدية وغير قادرة على مواكبة التغيرات التكنولوجية، وانعكاساتها على البنى الفكرية، ومفاهيم العمل، والزمن، وأيضاً على نظريات الأمن الداخلي، والخارجي، وعلى مفهوم الحرية، وعلى الفلسفات السياسية، والقانونية.
أدت التطورات التكنولوجية إلى تغيير قيم المجتمع الزراعي، واقتصاداته، وتطوير السياسات الزراعية، وأساليب الإنتاج الرأسمالية، وتوحيد الأسواق، وأيضاً إلى التوسع الرأسمالي، والغزو الأوروبي لعديد بلدان العالم المتخلف، من الاستعمار البريطاني، والفرنسي، والإيطالي، والبلجيكي، والإسباني والبرتغالي.
على صعيد الثقافات القانونية، والسياسية، أدت التكنولوجيا وثوراتها إلى تشكل أنساق قانونية جديدة تنظم تمدد التكنولوجيا في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية، في قوانين التجارة، والصناعة والنقل الجوي، والبحري، والبري، وأيضاً في قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية.. إلخ.
لا شك أن الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي ستساهم في نقلة نوعية، وربما قطيعة مع بعض الأنظمة القانونية، التي تشكلت تاريخياً، في أوروبا، وأمريكا الشمالية، بل والأجهزة التي تكافح الجريمة، ونوعية السلوكيات الإجرامية الجديدة، التي يرتكبها بعضهم في بلدان العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في النصب، واختراقات حسابات المصارف، والمواقع الاستخباراتية والأمنية، والشركات الكونية العابرة للقارات والحدود، وفي التحريض على ارتكاب الجرائم التقليدية كالقتل، والسرقة، والرشوة، والاختلاس…الخ!
أدت الثورة الصناعية الرابعة، والحياة الرقمية إلى انكشاف الخصوصيات، وإلى تفكك نسبى حتى الآن بين القانون، والحريات العامة، والخاصة، وأيضا إلى توظيف الرقمنة والذكاء الاصطناعي في ارتكاب الجرائم بوسائل وآليات مختلفة، ومن ثم إلى تطور كبير في أدوات وآليات ارتكاب الجرائم، والسلوك الإجرامي. شهد تاريخ ارتكاب الجرائم في بلدان العالم كافة، تحولات في أساليب السلوك الإجرامي، وتغيره معها مع كل تطور تكنولوجي نوعي، وهو ما يؤدي إلى أشكال وآليات مختلفة في ارتكاب الجرائم، وأيضاً إلى صراع بين ذكاء بعض المجرمين، والأخيلة الإجرامية المستجدة والمتطورة، وبين الأجهزة الأمنية في كل دولة ومجتمع، وخاصة في شمال العالم الأكثر تطوراً. هذا الصراع الضاري بين التكنولوجيا المتطورة المستخدمة في الجريمة ومرتكبيها، وبين العصب الإجرامية، وبين الأجهزة الأمنية بات جزءاً من تاريخ تطور أساليب الجريمة، وأيضاً سياسات المكافحة، والكشف عنها، وإدخال تعديلات ونصوص جديدة مواكبة في القوانين العقابية والإجرائية في عالمنا.
الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي أتاح لبعض أجيال من الصبية، والشباب قدرات واسعة، في استخدام التقنيات الجديدة، واختراق الحسابات السرية في المصارف الكبرى، وأسرار الشركات، بل والأجهزة الأمنية، والاستخباراتية، والجيوش أياً كانت درجات تطورها التقني والتسليحي والعسكري، وفي التحريض والمشاركة مع آخرين في الاتفاقات الجنائية.
في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومواقع حزب الله في لبنان، بات واضحاً، استخدام أساليب تقنية فائقة التطور في مجال الجرائم المنهي عنها في القانون الدولي الإنساني وقانون الحرب كالإبادة الجماعية، والحصار والعقاب الجماعي، والتجويع ومنع المساعدات الإغاثية، والطعام والمياه والأدوية والمستلزمات الطبية، والاعتداءات علي المستشفيات والمراكز الطبية، والكنائس والمساجد ودور العبادة المنهي علي سلطات وقوات الاحتلال العسكري القيام بها ضد السكان المدنيين، ومعاملة أسرى الحرب وسياسة الاغتيالات من خلال تقنيات الرصد الرقمية والذكاء الاصطناعي، وتحديد المواقع، والشخصيات، واستهدافها بالطائرات المسيرة والصواريخ والقنابل المدمرة للأنفاق، والشخصيات على نحو ساهم في تطوير آليات تطبيق سياسة الاغتيالات في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، بالإضافة إلى عمليات التجنيد لبعض العملاء في مناطق تركز قادة حزب الله وقواته، وحواضنه الاجتماعية الطائفية وغيرها في الضاحية الجنوبية، والبقاع وجنوب لبنان، وأيضاً في قطاع غزة والضفة الغربية.
من ناحية أخرى نجد توظيف حماس للذكاء الاصطناعي والرقمنة من بعض شباب الحركة في عملية طوفان الأقصى، التي أظهرت الخيال الرقمي والعسكري للمقاومة في مواجهة الاحتلال الاستيطاني لإسرائيل للأراضي المحتلة بعد عدوان الخامس من يونيو 1967.
من ناحية أخرى كشفت حرب المسيرات بين حزب الله، وإسرائيل، عن توظيف الذكاء الرقمي، لدى بعض كوادر الحزب في تحديد بعض المواقع الاستخباراتية والعسكرية للجيش الإسرائيلي المحتل لبعض الأراضي اللبنانية.
لا شك أن ذلك سيؤدى على الأرجح مستقبلاً إلى دفع الدول الكبرى في عالمنا، إلى أحداث تعديلات وإضافات جديدة على قوانين الحرب، والدولي الإنساني.
في القوانين الداخلية ستدخل تعديلات كبري في بعض نصوص قانون العقوبات والإجراءات الجنائية، وقوانين أخرى، والأهم في جرائم أمن الدولة من الداخل، والخارج، وغيرها من الجرائم التقليدية، واستحداث جرائم جديدة.
أدت الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي إلى احتمالات تغير بارز في الأنظمة القضائية على نحو ما ظهر مع وباء كوفيد 19 المتحور، من استخدام آلية المحاكمات المرئية دون انتقال المتهمين إلى المواقع التي يحاكمون فيها، ومن ثم سيؤدى ذلك في المقبل من العقود إلى تغيرات في آليات المحاكمات القضائية.
الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وانكشاف مفهوم الخصوصية القرين بالحريات الشخصية، أدى إلى بروز أنظمة رقابية متقابلة ومتصارعة. برزت ظاهرة الرقابات الفردية المتبادلة من بعضهم على الحسابات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، من الأفراد الرقميين على بعضهم بعضا، وأيضاً إلى هتك الخصوصية، والأخطر هو اصطناع بعض الأفراد الرقميين صوراً عارية أو مخجلة لبعضهن، أو بعضهم، وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعها اصطناع الأكاذيب، والأخبار السلبية إزاء الأخرين، وهو ما أدى إلى استخدام بعض الجماعات السياسية المعارضة لا سيما في العالم العربي، ودول من جنوب العالم، الأخبار الكاذبة، والصور المصطنعة في هجاء القادة السياسيين، وخصومهم، وأيضاً من هؤلاء إزاء معارضيهم، وإسناد اتهامات وهجاءات لهم، والسخرية منهم، والتحقير من شأنهم، من خلال جماعات منظمة على الواقع الرقمي.
ثمة أيضاً تطورات في أنظمة الرقابة الأمنية والاستخباراتية في كل دول العالم، من خلال استخدام أنظمة رقابية رقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وفى الطرق السريعة ومقار العمل، والمدن والشوارع والمحلات، والمقاهي، والمطاعم، والمنازل، بل والشقق، من خلال كاميرات المراقبة، وباتت كل تفاصيل الحياة مكشوفة، ويتم تسجيلها وتوثيقها.
ثمة أيضاً رقابات الأفراد عبر الهواتف المحمولة، للجرائم، وتفاصيل الوقائع اليومية من الجرائم، والمخالفات، بل والتنصت على الآخرين وتصويرهم، وتسجيل مكالماتهم الهاتفية، وأساليب البوح الحميمية، وغيرها من اعترافات، أو نميمة على الآخرين… إلخ.
باتت الحرية محاصرة رقمياً، وفعلياً، على الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وصراع رقابات متبادلة سياسياً وأمنياً، وفردياً من كل طرف على الآخر، بل واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي – بديلاً عن الإعلام التقليدي من الصحف والقنوات التلفازية والإذاعات – في التأثير على توجهات الجماعات الناخبة كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ونجاح ترامب.
عالمُ من الأنظمة الرقابية، وشبكاتها المعقدة وصراعاتها، باتت مؤثرة على مفهوم الحرية والليبرالية الغربية، والقانون وبات الفرد الرقمي، والفعلي عارياً أمام التحولات التكنولوجية فائقة السرعة والتطور، ومن ثم سيؤثر ذلك على مفهومي الحرية والقانون في العقود المقبلة. ثمة تحولات كبري تشكلُ قطيعة مع مألوف التحولات الكبرى التي تمت تاريخياً داخل الثقافات الإنسانية وتجارب الرأسماليات الغربية المتعددة، وسقوط التجارب الماركسية في الكتلة السوفييتية، ومعها الرجوع إلى الرأسمالية المتوحشة النيوليبرالية المعولمة، بكل مشاكلها الضخمة، وانصياع جنوب العالم لصندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية، وإعادة إنتاج المديونيات الخارجية، ومعها الفقر المتمدد، وتدهور وتفكك الطبقات الوسطي في ظل الاستبداد والقهر، وازدياد الهوة بين السراة عند قمة النظم الاجتماعية علي قلتهم، وبين غالبية القوي الاجتماعية الأخرى وخاصة الطبقات الأكثر فقراً، وارتفاع معدلات الفساد السلطوي في النخب السياسية الحاكمة، ورجال الأعمال، وفي أجهزة الدولة البيروقراطية، وامتداد الفساد في الأنسجة الاجتماعية، الذي ينتج حالات من الفوضى في الحياة الفعلية والرقمية، ووهن دولة القانون، لصالح قانون القوة والمكانة والثروة. الأخطر ان نظم الرقابة الرقمية والفعلية توظف التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي في السيطرة الأمنية وانتهاك الخصوصيات للمعارضين على قلتهم واعتقالهم وإصدار أحكام جنائية في حقهم من سلطات قضائية غير مستقلة في بعض دول جنوب العالم. لا شك أن الرقابات الفعلية والرقمية باتت سلاحاً في حيازة السلطات الاستبدادية والتسلطية في دول جنوب العالم للسيطرة، وسحق الحريات واعتقال العقل الحر والضمير الإنساني، والفكر المبدع، وهو ما يكرس موت السياسة ومعها الحرية والإبداع العقلي والتقني، بينما شمال العالم يتقدم بسرعة فائقة، وعلى نحو مفرط، وتزداد الهوة بين الشمال والجنوب. مع الرقابات المتبادلة والمتضادة ثمة سيولة نسبية وبعض من الاضطراب والفوضى المؤثرات على مفهومي الحرية والقانون فلسفياً وسياسياً واجتماعياً. الأخطر عربياً التفكك في أبنية الدولة الهشة والتذري الهوياتي، والتفكك المجتمعي في دول العسر التسلطية، وموت السياسة والحرية والمساواة والعدالة وحريات التدين والاعتقاد، لصالح هيمنة القلة الفاسدة المصطفاة سياسياً واقتصادياً في مواجهة غالبية الطبقات الاجتماعية الأخرى. تتزايد غلبة الرقابات الرقمية والفعلية دفاعاً عن مصالح القلة في النظم التسلطية للدول المعسورة، ويزداد تخلفها وتبعيتها لدول المركز الرأسمالي العالمي وللدول النفطية، والأخطر ان الرقابة الفعلية والرقمية، تبدو مراقبة من إسرائيل، والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي يتم شراء بعض هذه الأنظمة الرقابية من شركاتها الكونية. عالم عربي تزداد الهوة بين بعضه بعضاً، وخاصة في ظل التطبيع مقابل السلام واتفاقات أبراهام، ومعه ستزداد الرقابات الرقمية والفعلية الإسرائيلية للقلة الحاكمة عربياً ومعارضاتها، وأيضاً تجاه قوي محور المقاومة والمساندة على نحو ما ظهر في سياسة الاغتيالات لقيادات بارزة في حزب الله، وحماس، وفي توظيف الذكاء الاصطناعي، والعملاء علي الأرض، وأيضاً في عملية البيجر والعمليات الأخرى، التي أبرزت انكشافات واختراقات أمنية واستخباراتية ورقابية في وسط المقاومة بل وإيران فما بالنا بدول اتفاقات أبراهام وبعض دول العسر!.
المصدر: الأهرام