بين عقل النخب والعقل الجمعي

img

ثمة علاقة لا تتسم بالوضوح الكافي بين العقل الجمعي الذي هو منتج فكري جمعي لعوامل اجتماعية – اقتصادية – عسكرية بما في ذلك الحروب الخارجية والداخلية وعلاقة السلطة بالشعب والحياة المادية والروحية للمجتمع وبين عقل النخب الثقافية والسياسية والدينية.

مثلاً: يحتار المؤرخون حتى الآن في فهم الكيفية التي تفككت فيها الفلسفة العقلانية اليونانية التي بلغت ذروتها عند أرسطو الذي عاش بين 384-322 قبل الميلاد، وساد بعدها الميل للغيبيات وهكذا انفتح الطريق أمام الأفكار الدينية والميتافيزيقات الواردة من الهند وفارس وبابل ومصر وسورية الكنعانية لاختراق الفكر اليوناني في الأسكندرية وولادة الهرمسية التي تعتبر من أهم منتجات المرحلة الهلنستية الفكرية.

يقول فيستوجير: “وكما يحدث غالبا فقد رافق هذا الأفول الذي أصاب الفكر اليوناني نمو واتساع الرغبة ليس في التدين الحقيقي ولكن في الهوس الديني، لقد بدا الانسان وكأنه يريد أن يعبر بذلك عن استسلامه للقوى الإلهية طالباً منها أن تمده على شكل وحي أو إلهام شخصي بما كان يريد الحصول عليه من قبل بواسطة قواه العقلية”.

أي أنه الشعور بالعجز تجاه انسياق المجتمع نحو حالة لا يستطيع الفرد تحملها ولا تغييرها.

هذا الشعور بالعجز يدفع باتجاه ازدراء العقل والبحث فيما وراء العقل، والمسألة هنا أن سيادة تلك المشاعر لا تبقي للنخب الفكرية سوى الذهاب بذات الطريق وهكذا تفككت العقلانية اليونانية.

يمكن التفكير ملياً في الأسباب التي أوصلت الفرد اليوناني ثم الجماعة أو المجتمع لتلك الحالة مثل عدم الاستقرار الاجتماعي والحروب وفشل مشروع الإمبراطورية العالمية المقدونية وغير ذلك كثير، لكنا هنا لسنا بصدد ذلك، يكفينا ملاحظة كيف يحدث الانتقال من العقل الجمعي لعقل النخب.

هل ما حدث للفكر اليوناني من انحطاط بعد أن بلغ أعلى ذروة وصلتها الحضارات السابقة في الميدان ذاته هو فريد واستثنائي؟.

كلا، أبداً، نحن مررنا بما يشبه ذلك السياق، ومقارنة بسيطة بين فلسفة ابن رشد وبين الفكر العربي الإسلامي في عصر المماليك تكفي للدلالة على المنحدر الذي هبطنا إليه أيضاً.

وباعتبار أن كل أشكال الفكر العربي كانت تولد وتعيش في بوتقة الإسلام فربما ينبغي ملاحظة ليس انتصار النقل على العقل انتصاراً حاسماً منذ هزيمة تيار المعتزلة ثم حرق كتب ابن رشد ولكن وبنفس الدرجة من الأهمية انتشار التصوف كظاهرة اجتماعية احتلت مكانة تلفت النظر في العهدين المملوكي والعثماني.

وفي مدن الشام الرئيسية كان من السهل رؤية عشرات التكايا لممارسة العبادات والرياضات الصوفية وكانت تفتح أبوابها أيضاً للفقراء والمشردين وعابري السبيل.

يعبر بعضهم عن أن التصوف تغير فهمه وطبيعته مع الزمن، لكن المسألة تختلف قليلاً، فالتصوف قد تغير حين انتشر أفقياً وأصبح ظاهرة اجتماعية تداخلت مع هموم ومسائل المجتمع الأخرى بما في ذلك مواجهة الغزوات الخارجية، وتدهور شروط الحياة والمعيشة، وانفصال الحكم عن المجتمع… إلخ.

أيضاً: لماذا توقفت وانتكست حركة التجديد في الفكر الإسلامي بعد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلميذه الشيخ الطرابلسي رشيد رضا وعلي عبد الرازق وشيئاً فشيئاً حلت مكانها السلفية الأكثر تشدداً؟

ربما يقفز التفكير للعوامل الاجتماعية والسياسية التي رافقت الحملات الغربية المتتالية للهيمنة على البلاد العربية وهذا صحيح لكنه ليس ما أريد التوقف عنده بل ما نتج عنه وعن عوامل أخرى وهو ارتداد العقل الجمعي العربي للخلف، هذا الارتداد الذي دفع النخب أيضاً للتوقف عن التفكير الإبداعي العقلي، وهكذا يمكن الإمساك هنا بالعلاقة بين العقل الجمعي وعقل النخب كما كان عليه الحال في العهدين المملوكي والعثماني.

العقل الجمعي لا يتشكل بمعزل عن عقل النخب، لكنه ليس تابعاً لعقل النخب بل يتشكل ويعاد تشكله ضمن معطيات اجتماعية مركبة تعمل بطريقة لا إرادية مستقلة عن النخب، وفي النهاية فإن العقل الجمعي يصبح القاعدة لتشكيل عقل النخب أو إعادة تشكيله.


Author : معقل زهور عدي

معقل زهور عدي

RELATED POSTS

Comments are closed.