رَفيقُنا أبو علي.. عن فائق المير، النضال من أجل الحرية والحياة، من أجل البلاد

img

عروة خليفة – موقع الجمهورية

دائمُ الحركة، على الضدِّ من السجن. لطيفٌ مثل أوراق الحبق في التبولة، عنيدٌ أكثر من قضبان سجن صيدنايا، يحب الجميع ويكره حافظ الأسد. عندما شاهَدَتْهُ ابنته للمرة الأولى من خلف شِبَاك المعتقل السياسي لم تعرفه، قالت له «عمو»، فأصبح «العميم»… عمّنا جميعنا، ورفيقنا فائق المير؛ أبو علي.

حين سألتُها عن تاريخ زواجهما أشارت إلى العام 1980: «أصبحوا الآن أربعاً وأربعين عاماً، على الورق، ربما فعلياً لم يتجاوزوا العشر سنين»، وتضحك. تعرف هي أنّ الفترات التي قضاها معها ومع أولاده كانت أكثر، لكن الغياب هو ما يطغى بعد أحد عشر عاماً على اختطافه من قبل أجهزة أمن النظام السوري في مدينة دمشق.

هذه السطور مدينة للسيدة سمر الدخيل، زوجة فائق المير ورفيقته، والتي حكت لنا قصة حياتهما معاً. ربما لم تكن أغلب الأحداث سعيدة، فهي رواية مليئة بالغياب والاعتقال وملاحقة أجهزة الأمن، لكنها أيضاً حكايةٌ عن النضال في مواجهة الظلم والاستبداد، وعن حب الحياة.

ولد فائق المير أسعد في قرية القدموس بريف محافظة طرطوس عام 1954، وانتقل للحياة برفقة عائلته إلى مدينة الطبقة، بجوار سد الفرات الذي عمل والده فيه منذ تأسيسه. وهناك، في أجواء المدينة التي جمعت سوريين من مختلف أنحاء البلاد، قَدِموا للعمل في أكبر مشروع بنية تحتية عرفته سوريا حتى ذلك الوقت؛ هناك أصبح شيوعياً ذا حسٍّ سليم قاده للالتحاق فوراً بالانشقاق الذي حدث ضمن الحزب الشيوعي السوري عام 1972، والذي انحاز فيه جزءٌ كبيرٌ من كوادر الحزب إلى جانب معظم أعضاء المكتب السياسي ضدّ ديكتاتورية القائد التاريخي للحزب خالد بكداش، وضدّ التقارب مع النظام الحاكم. الحزب، الذي عُرف باسم الحزب الشيوعي- المكتب السياسي، انتقل اعتباراً من وقوفه ضد التدخل السوري في لبنان عام 1976 نحو معارضة صريحة للنظام.

بدأت مضايقات الأمن مبكراً. في عام 1979 ارتبط كل من فائق وسمر، لم يكن هذا الخيار يرضي العائلة: «والدي، الله يرحمه، قلي بدك تتعبي معه، بس إذا بدك تضلّي مع هاد الخيار أنا ما بوقف بطريقك، وأنا بحبه لفايق فاستمريت»؛ تقول سمر بعد أن روت كيف اعتُقل أبو علي لمدة شهرين بسبب انتمائه الحزبي، ولم يكن قد مضى على خطبتهما سوى فترة قصيرة.

لاحقاً، وَجّهت الأجهزة الأمنية بفصله من عمله كمساعد مهندس كهرباء في سد الفرات عام 1983. لم تكن أي من تلك الازعاجات الأمنية المتكررة لتُثنيه عن مواصلة العمل السياسي المعارض لنظام الحكم.

عام 1987 صدرت بحقه مذكّرة بحث، ما أدى إلى تَخفّيه وتواريه في مدينة دمشق لعامين لم يستطع خلالهما رؤية ابنته التي كانت قد وُلدت مؤخراً. وفي 1989 اعتُقل فائق المير، واختفى لأكثر من ثلاثة أعوام لم تستطع زوجته أو أهله معرفة مصيره خلالها، إلى أن أُحيل مع سجناء سياسيين آخرين في بداية التسعينيات إلى محكمة أمن الدولة الاستثنائية، ليحكُمَ عليه القاضي سيء السمعة فايز النوري بالسجن لمدّة عشرة أعوام، قضى جلّها في سجن صيدنايا الذي كان قد أُسِّسَ حديثاً في ذلك الوقت من التسعينيات.

«في الزيارة الأولى التي أخذت فيها ابنتي فرح، وكانت بعمر الخمس سنوات تقريباً، لتزور والدها في سجن صيدنايا، لم تعرفه وقالت له عمّو. قلت لها هاد بابا يلي صورته بالبيت، لم تكن تعرف هذه الكلمة ببساطة، فقد حرمت منه منذ عمر الثلاثة أشهر»، تتذكر سمر تلك الزيارة التي حَدَّثَ فائق رفاقه عنها مراراً.

لم يحب أبو علي الحديث كثيراً عن سنوات سجنه العشر تلك، عرفنا عنها بعد خروج رفاقه من السجن، فهُم من يتحدثون عن فائق، ولطالما كرروا قصصاً عن لطفه الشديد كما تقول سمر. سنوات السجن بالنسبة لفائق كانت مثل توقفٍ مؤقت لنشاط حثيث من أجل إبقاء العمل السياسي المعارض على قيد الحياة: «عاد إلى النشاط ضمن حزبه بعد أقل من شهرين على خروجه من السجن، عام 1999». شارك أبو علي في المنتديات السياسية التي أُقيمت في السنة الأولى من حكم بشار الأسد بين عامي 2000 و2001، والتي عُرفت بـ «ربيع دمشق».

شارك المير في مؤتمر حزبه عام 2005، وقد صار اسم الحزب هو «حزب الشعب الديمقراطي السوري» بنتيجته، وشمل مراجعة فكرية للإرث الماركسي والاشتراكي. ومنذ ذلك الوقت كان أبو علي جزءاً من قيادة الحزب التي شاركت في عدد كبير من الأنشطة المعارضة لنظام الأسد وقادت بعضها؛ كما شارك أيضاً في التحضير لإعلان دمشق، الذي كان بياناً وطنياً من أجل التحول الديمقراطي في سوريا سرعان ما تحول إلى أحد أبرز منصات المعارضة السورية منذ عام 2005.

حياة أبو علي ونضاله كانا تكثيفاً لرفض كثير من السوريين سجن البلاد ضمن جدران الأبد الأسدي، فحين أصبح العمل السياسي يعني الموت أو الدخول في نفق الاعتقال والتغييب الطويل، كان فائق المير أحد أبرز كوادر حزبه المعارض لحافظ الأسد. دفع أبو علي ثمناً كبيراً، لكنّ ذلك لم يجعله غاضباً قطّ… بعناده وإصراره على الاستمرار تمكّنَ الرجل اللطيف، بالشراكة مع معارضات ومعارضين آخرين للأسدية، من تسجيل موقفٍ لم نكن لولاه نستطيع اليوم النظر إلى تاريخنا بالقدر ذاته من الاحترام؛ كان نضالهمنّ ضد الأبد هو الجذور التي استندنا عليها في مواجهة هذا الكابوس ربيع عام 2011.

وفي غمرة الاغتيالات السياسية التي ضربت لبنان منذ العام 2005، كان موقف أبو علي ورفاقه واضحاً لصالح استقلال لبنان من الاحتلال السوري وهيمنة نظام الأسد، موقفٌ دفع ثمنه سنة ونصف في سجن عدرا إثر اعتقاله عائداً من لبنان بعد إلقائه كلمةً في عزاء سمير قصير وجورج حاوي في بيروت.

كان صديقاً للجميع، تقول سمر. أبو علي من المعارضين القلائل الذين جمعوا في صداقاتهم كل أطياف المعارضة السورية، وكان يجمعهم على صحن التبولة الذي أحبَّ تحضيره، وكأس العرق البلدي الذي بات يصله باستمرار منذ انتقاله إلى طرطوس حوالي عام 2003: «قال لي أنّ هناك فرصة عمل في طرطوس، لكن بعد انتقالنا علمت بأنّ الهدف كان قيادة تنظيمه في تلك المدينة والمنطقة الحساسة». كان أبو علي حريصاً للغاية على التواصل مع الشباب الأصغر سناً وبناء صداقات بينهم. لم يَعْلَق في دوائر رفاقه من المناضلين والمعتقلين السياسيين السابقين، وفتح دوماً الباب أمام أصدقاء شباب جدد، ساهم في كثير من الحالات بدخولهم إلى عالم السياسة وامتلاكهم لرأيهم الخاص، ما ساهم في أن يكون المير رفيقاً للجميع، عابراً لحواجز الأجيال، وصديقاً لكثير من السوريات والسوريين في مختلف أنحاء البلاد.

عام 2010، إثر حملة اعتقالات جديدة لبعض أعضاء حزبه، لوحق أبو علي مرةً أخرى، وحكم عليه قضاء النظام السوري غيابياً بالسجن لخمسة عشر عاماً بتهمة «وهن عزيمة الأمة». عاش أبو علي من جديد حياة التخفّي وتوارى عن الأنظار بعيداً عن بيته في طرطوس الذي تعرض للمداهمة: «كان عليه أن يعود إلى حياة التخفي بعد خروجنا من الصالة التي عقدت فيها خطبة ابنتنا فرح. عدنا إلى المنزل لوحدنا، بينما اختفى هو مرةً أخرى»، تتذكر سمر تلك اللحظات الصعبة على العائلة.

يقول أبو علي في أحد اللقاءات الصحفية النادرة معه إنه فكّر في الخروج من سوريا بعد أشهر من تلك الملاحقة، لكنّ الثورة السورية انطلقت، ما أدى لاتخاذه قرار البقاء متوارياً والعمل مع أصدقاء ورفاق على دعم الحراك السلمي ضد نظام الأسد. شارك المير في دعم وتنظيم المظاهرات، كما كان جزءاً من النقاش الذي أخرج من خلاله الراحل عمر عزيز فكرة المجالس المحلية لتكون نواةً محلية للنضال التحرري في البلاد.

ورغم تخفّيه وملاحقته من الأمن، لم يتوقف فائق المير عن مقابلة الأصدقاء والشباب الذين دخلوا عالم السياسة من باب المشاركة في الثورة السورية، على الرغم من المخاطر الكبيرة التي تتسبب بها تلك الحركة والتنقلات الدائمة.

في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) خرج أبو علي من شقةٍ كان يسكن فيها بحي التجارة وسط مدينة دمشق، وقال لسمر إنّه سيعود بعد ساعة. وعندما سمعت سمر دقات الباب بحلول الموعد المرسوم ظنّت أنّه فائق، لكنَّ مَن كان على الباب هم عناصر المخابرات الذين نجحوا أخيراً في اختطاف أبو علي، وأتوا لمداهمة المنزل وتفتيشه ومصادرة كل الأوراق والأجهزة الإلكترونية. لم تتوصل عائلة أبو علي ورفاقه لأي معلومات عن مصيره منذ ذلك اليوم.

اليوم، بعد أحد عشر عاماً على تغييب فائق المير، لاتزال سمر، زوجته ورفيقة نضاله؛ وأولاده علي وفرح؛ ورفاقه وأصدقاؤه ومحبوه؛ وبلده، في انتظار ذلك الرجل العنيد، والمناضل المِثال.


الكاتب هيئة التحرير

هيئة التحرير

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة