شرق أوسط مشتعل.. هل ستمتد النيران إلى سوريا؟
تعيش المنطقة على وقع صراع دموي منذ ما يقارب أربعة عشر عامًا، حين انطلقت هتافات الجماهير معلنة ضرورة الانتقال إلى حالة جديدة، والخروج من هذا المستنقع الذي وقعت به دول “الثورات”، بدءًا بليبيا ثم اليمن وسوريا، وإلى حد ما مصر، ثم السودان واليوم غزة ولبنان.
الفراغ الاستراتيجي يغري القوى الإقليمية
كانت بلاد “الثورة” تعيش تحت سلطات استبداد أكلت الدولة واستنقعت مؤسساتها، وأخرست كل الأصوات التي كانت تنادي بالحد الأدنى من الإصلاحات، لتجنب مصير مهول قد يواجه الدولة إن حصل الانفجار، دون جدوى. وفعلاً حصل انفجار كبير هز المنطقة كلها، بدءًا بصفعة من شرطية لشاب تونسي، ولم تتوقف الدماء منذ ذلك الحين.
يعيش العالم على وقع فراغ استراتيجي على مستوى القيادة الأوحد في العالم، فنحن في فترة انتقالية كما قال بايدن في أول خطاب له أمام الأمم المتحدة في أيلول 2021: “نحن نقف عند نقطة تحول في التاريخ”. ثم عاد وكرر كلامه مرة ثانية في خطابه بعام 2024 قائلاً: “أعتقد حقًا أننا عند نقطة تحول أخرى في تاريخ العالم”.
هذا الفراغ سمح للكثير من القوى الإقليمية والمحلية بالتدخل لتحقيق مصالح، بعضها توسعي بهدف التمدد وأوهام الإمبراطورية، وبعضها لأجل إفشال مساعي الشعوب المناضلة من أجل الحرية من الاستبداد والعيش بكرامة، واقتصاد يحقق عدالة في التوزيع.
استغلت إيران هذه الفوضى، وعملت – تحت مسمع ومرأى أميركا وموافقة ضمنية منها – على توسيع نفوذها، على حساب دماء وأشلاء شعوب المنطقة، وافتخرت بأنها تسيطر على أربع عواصم عربية، وأصبحت تفاوض أميركا على أنها ند، وتريد أن يكون لها قرار بشأن شكل المنطقة.
حاول الرئيس التركي تعزيز الدور الإقليمي لتركيا من خلال المظلة العثمانية، و”السنية السياسية” في الشرق الأوسط، واصطدم بموانع وعقبات أميركية وخليجية وفشل في مسعاه، إلى أن تصالح مع الواقع الحالي، وحاول أن يقترب من محور إيران لتحصيل مكاسب، وإبعاد خطرها عن نفوذه في الشمال السوري.
تدخلت روسيا – كدولة تحمل إرث قوة عظمى – في سوريا، وحاولت أن يكون تدخلها لحماية وجودها الاستراتيجي في المنطقة، بعد أن تم إخراجها بالنفوذ الأميركي، وخسرت قاعدتها البحرية في ليبيا، ولم تستطع الحصول على قاعدة بحرية في البحر الأحمر، ولم يبقَ لها سوى الساحل السوري. لهذا كان تدخلها لإنقاذ حليفها بشار بالتعاون مع قوات إيرانية على الأرض، دون أن تقترب هي من الأرض كي لا تستنزف، وحاولت تحقيق مصالح اقتصادية تعوضها عن تكاليف التدخل، وحصلت على امتيازات لم تستطع أن تحولها إلى نقدية تستفيد منه.
صراع القوى
تصارعت روسيا وإيران تحت الطاولة في الأرض السورية على النفوذ والرؤية؛ فالرؤية الإيرانية تقوم على هدم الدولة وتقوية الميليشيات على حسابها، أما الرؤية الروسية فتريد مؤسسات الدولة الرسمية، وبناء مؤسسات تابعة لها مباشرة، مثل “الفيلق الخامس”. ونجحت إيران إلى حد كبير في هدم الدولة ونشر الميليشيات، وأسندت مهمة قيادة هذا العمل إلى سليماني الذي اغتالته أميركا، ثم حسن نصر الله، الذي اغتالته مؤخرًا إسرائيل. كما حيدت الفرقة الرابعة التي تهيمن عليها إيران عن تقديم أي دعم لحزب الله ونفوذها في المنطقة، فقد كانت الرسائل واضحة لبشار، الذي التزم بها، ثم أتت الرسالة بشكل مباشر إلى شقيقه ماهر الذي يقود الفرقة الرابعة من خلال قصف إسرائيل للفيلا الخاصة به.
بعد عملية السابع من أكتوبر من العام الماضي، وجدت إسرائيل نفسها في خطر وجودي، وأحست بالغدر من إيران التي كانت معها مصالحهما متقاطعة في الهيمنة على المنطقة. وقررت أن تستغل العام الأخير من حكم الرئيس الأميركي، حيث لا إمكانية حقيقية لأميركا بالضغط على إسرائيل ومنعها من تنفيذ مشروعها بسبب الانتخابات ورغبة كل حزب أميركي في الفوز بها، ولهذا تتقرب من إسرائيل ولا تستطيع أن ترفض لها طلبًا في هذا الوقت الصعب.
استغل نتنياهو، كأي مرابٍ، هذا الواقع، وعمل على تغيير الواقع الاستراتيجي في المنطقة، وإخراج أذرع إيران منها، وإضعافها بشكل كبير كي لا تشكل أي خطورة عليهم في المستقبل.
وعلى المدى المنظور، لن تنجح أي عملية تهدئة، فالعالم منشغل بقضايا أخرى مثل الانتخابات الأميركية والحرب في أوكرانيا وغيرها، مما يتيح لإسرائيل استثمار هذا الفراغ الدبلوماسي. خصوصًا بعد انكشاف الدبلوماسية اللبنانية على أنها تنفذ إملاءات محور إيران بسبب نفوذ حزب الله، مما أدى لابتعاد الدبلوماسية العربية عنها مقارنة بما كانت عليه في عام 2006، وبقاء الوضع على ما هو عليه، منصة عسكرية مكشوفة لإيران تنفذ من خلالها ضغوطًا على إسرائيل وأميركا لتحقيق مصالح خاصة بها. خصوصًا مع عدم انتخاب رئيس للجمهورية حتى اليوم، يترك الحكومة اللبنانية مكشوفة دبلوماسيًا.
إضافة إلى ذلك، فإن النجاحات العسكرية التي تحققها إسرائيل تسمح لها برفع السقف والاستمرار بهذا الوضع، فقد خضع حزب الله وسلم مطار بيروت إلى الجيش اللبناني، وبالتالي سلطة الحكومة خوفًا من قصفه ووقوع لبنان تحت الحصار. كما خرج نائب الأمين العام لحزب الله في خطاب ليعلن أن “حزب الله يدعم جهود رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري للتوصل إلى وقف لإطلاق النار”، دون الإشارة إلى الشروط التي كان حزب الله يضعها لوقف الحرب على غزة، مما يشير إلى تراجع موقف حزب الله.
في المقابل، ارتفع السقف الإسرائيلي، وبعد أن كانت إسرائيل تهاجم فكرة “وحدة الساحات” وتعتبرها “مؤامرة إيرانية” عليها، طلب رئيس المخابرات الإسرائيلي – حسبما نقلت صحيفة الشرق الأوسط عن الإعلام العبري – من نظيره الأميركي “الاستفادة من الإنجازات التي حققتها إسرائيل في مواجهة (حزب الله) لفرض صفقة تبادل أسرى على قيادة حركة حماس في قطاع غزة”.
سوريا في المرحلة القادمة
ستستثمر إسرائيل لأقصى حد من الظروف المواتية لها لتحقيق مشروعها بتغيير الوضع الجيوسياسي في المنطقة. وقد نبه الرئيس الروسي خلال لقائه مع الأسد نهاية تموز/يوليو الماضي إلى “أن الوضع يزداد توترًا في الشرق الأوسط”، وحذر من تأثير ذلك بشكل مباشر على سوريا. وهذا يعني أن توسيع العمليات العسكرية خارج غزة مسألة وقت، وفعلاً شهدنا بعد ذلك انتقال العمل العسكري إلى لبنان، وسيستمر باتجاه جميع أذرع إيران، خصوصًا في سوريا.
التحذير الروسي انتقل لفعل عملياتي على الأرض؛ فبعد أن نشرت روسيا مجموعة من نقاط المراقبة في الجولان لتكون فاصلاً بين إسرائيل وبين الميليشيات الإيرانية، على أمل تجنب انتقال الصراع إلى سوريا، عادت لسحب هذه النقاط وإفراغها. حتى إنها تلقت رسائل بالنار من إسرائيل بعد قصف الأخيرة مستودعات أسلحة تابعة لإيران في مطار حميميم.
قد يكون الدافع وراء هذا الفعل هو خوف الروس من أن يكون جنودها بين نارين: الميليشيات الإيرانية، والجيش الإسرائيلي، أو لتوريط إسرائيل بشكل أكبر في المنطقة وجر أميركا معها لتغرق فيها، وتستنزفها عبر حرب مع إيران، انتقامًا لما فعلته بها أميركا في أوكرانيا.
في كل الأحوال، ستبقى هذه الحرب مشتعلة على الأقل لما بعد أول السنة، حتى يأتي رئيس جديد لأميركا. وقد تعمد إسرائيل إلى إحراج إدارة بايدن أكثر عبر التسبب في ارتفاع أسعار النفط بعد قصف إيران، مما يرفع من فرص ترامب بالوصول إلى الرئاسة، وسيتوافق غالبًا مع خطة نتنياهو بإفراغ المنطقة من النفوذ الإيراني، سواء عبر القوة العسكرية أو الحصار الاقتصادي.
المصدر: تلفزيون سوريا