عن المقاومات والثورات المسلحة والحروب الأهلية
المقاومات والثورات، بخاصة المسلحة، على مشروعيتها، تنطوي على أثمان باهظة، وتفضي في الغالب إلى هيمنة جماعات مسلحة على السياسة والموارد، وانحسار طابعها الشعبي، وطغيان بناها العسكرية على بناها السياسية، ثم الهيمنة على المجتمع وموارده.
يشتغل معظم التفكير السياسي العربي السائد وفق عقلية القبيلة والعصبية والهوية، رغم تناقض ذلك مع بديهية أخرى متخيلة، تفيد بمنجز يسمى “الأمة” أو “الشعب”، في حين لم يتحقّق أي منهما، بالمعنى السياسي والقانوني والكياني والهوياتي، كما أظهرت الحوادث السياسية في أكثر من بلد عربي؛ خاصة مع الافتقاد إلى دولة المؤسسات والقانون والمواطنين.
المشكلة أن هذا النمط من التفكير، الذي يركّز على عناصر الدم والجغرافيا والدين واللغة والتاريخ، يقصر عن رؤية الاختلاف والتعددية والتنوّع في المجتمعات العربية، وفاعليتها وشرعيتها، ويعجز عن تفسير التباينات والتناقضات والانشقاقات والصراعات الجارية، بل أنه ينكر وجودها، فكل ما فينا وما هو منا خير وخيّر، وكل ما هو سيئ وشرير فليس منا وبراني، ما يفسّر الاتكاء على نظرية المؤامرة الخارجية، في كل ما يعتور بلداننا من مشكلات.
والحال فإن طريقة كهذه في التفكير تقصر عن تفسير واقع الثورات التي تفجّرت للمرة الأولى في تاريخ مجتمعات هذه المنطقة، بتعرجاتها وإخفاقاتها وتحولاتها، مما يفسر تبرّم بعضهم من التوصيف بـ”الحرب الأهلية”، في حين أن معظم الثورات التي نشبت في أوروبا وأميركا وآسيا وإفريقيا تسمّت بذلك واتسمت به.
معضلة الثورات المسلحة
ما يفترض إدراكه هنا أن المقاومات والثورات، بخاصة المسلحة، على مشروعيتها، تنطوي على أثمان باهظة، وتفضي في الغالب إلى هيمنة جماعات مسلحة على السياسة والموارد، وانحسار طابعها الشعبي، وطغيان بناها العسكرية على بناها السياسية، وتالياً إلى الهيمنة على المجتمع، والميل نحو حل المشاكل، والاختلافات السياسية بالعنف، بدلاً من انتهاج الوسائل السلمية والديموقراطية لحلّ المشاكل البينيّة؛ لا سيما في ظل غياب حركة سياسية قوية ومجربة.
أيضاً، فكل ما تقدم ينجم عنه تعزيز التشقّقات في المجتمع والاحترابات الأهلية، هذا حصل في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن والجزائر (إبان ثورة التحرير وبعدها) وفي تجارب حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا، وضمنها فيتنام وكمبوديا وزيمبابوي.
من جهة أخرى، فإن المقاومات والثورات المسلحة تتأسس غالباً على الارتهان إلى الخارج، نسبة إلى مصادر التمويل والتسليح والإمداد، فيتولّد عنها نزعات خطيرة، الأولى، تتمثّل بالارتهان لإملاءات الداعمين، ويؤدي غالباً إلى حرفها عن مقاصدها؛ وقد شهدنا ذلك في الحالتين الفلسطينية والسورية. والثانية، تولّد نوعاً من شعور مخادع بالقوة الزائدة، مما يشجّعها على الدخول في مغامرات عسكرية أكبر من قدراتها، ومن قدرة مجتمعها على التحمّل، فيستنزفها ويرهقها ويدفّع مجتمعها الأثمان الباهظة، وهذا حصل في مجمل تجارب المقاومة والثورات المسلحة في بلداننا، وضمنها فلسطين وسوريا. في حين تفيد النزعة الثالثة، بتحلل الفصائل الفاعلة التي تستمد مواردها من الخارج، من أية مسؤولية إزاء شعبها بمعاناته وتضحياته، في تعمّدها إدخال شعبها في مواجهات عسكرية غير مدروسة وغير محسوبة، وميلها إلى التحوّل إلى سلطة في مجتمعها وفي مجالها الإقليمي.
مع ذلك، فما تقدم لا يقلل من أهمية الثورات، برغم نواقصها وأكلافها الباهظة، ذلك أنها لا تأخذ إذناً من أحد، وتحدث بشكل فجائي وعفوي واضطراري وعنيف، بحكم انسداد إمكانيات التطور والتغيير، إذ إن التاريخ لم يعرف ثورات هادئة ونظيفة وكاملة وناجزة، فالثورات تتشبّه بمجتمعاتها، وتتمثّل تناقضاتها ومستوى تطورها السياسي والاجتماعي والثقافي، وهي لا تأتي بحسب الرغبات أو النظريات، والأهم أن نجاحها ليس مضموناً، أي أنه لا يُشترط عليها.
وعليه، فليس ثمة إجماع على توصيف مسبق أو معلب، للثورات، مع التقدير للمنظرين باختلاف اجتهاداتهم، بدليل أن التراث النظري المتعلق بالثورات، الذي راكمته التجربة البشرية، كان يأتي تالياً وليس سابقاً لها، مثلما حصل في التنظير للثورة الأميركية والفرنسية، ثم للثورات الأوروبية في القرن التاسع عشر، كما للثورة الروسية وما بعدها.
ويجدر لفت الانتباه هنا إلى أن الثورات، بمعنى الكلمة، هي وليدة المجتمعات الحديثة، وتطور العمران البشري وتمركزه، أي أنها نتاج قيام المدن وتطور الصناعة ووسائل المواصلات والثقافة، والانقسام الطبقي وظهور الطبقة الوسطى، وتزايد الوعي بالحقوق والحريات الفردية والسياسية، مما يجعل منها حالة مرتبطة بالحداثة وبمفهوم السلطة والدولة، على خلاف التمردات الشعبية التي عرفتها العصور السابقة.
حدث الثورة السورية
على ذلك لا يقلل من أهمية الثورة السورية ومشروعيتها ونبل مقاصدها، التوصيف بـ “حرب أهلية”، كحالة دراسة، فمعظم الثورات وُصمت كذلك، ثم إن أية ثورة تتضمن نوعاً من حرب أهلية، حتى ولو كانت تستهدف طغمة استبدادية، لأن تلك الطغمة لها قواعدها الشعبية وعصبتها الأهلية، ولا ينقص السوريين حرباً أهلية على المصطلحات، إذ فيهم ما يكفيهم.
طبيعي أن الثورة السورية انطلقت بشكل عفوي، وفي ظل الافتقاد إلى حركة سياسية قوية وممثلة ومجربة ضد نظام استبدادي، لكنها في غضون ذلك، ولعدة أسباب ذاتية وموضوعية، دخلت في مسارات وتحولات أضعفتها وأخرجتها عن سكّتها، بفواعل داخلية وخارجية، ضمنها قوى الثورة المضادة والأطراف الدولية والإقليمية المعادية والداعمة في آن معاً.
منذ سنوات مثلاً، غابت الثورة السورية كفعالية وكرموز على أرض الواقع، وقد انتقل الصراع الداخلي (ثورة ـ حرب أهلية سيّان) إلى نوع من صراع دولي وإقليمي على سوريا، التي باتت مقسّمة. فثمة مناطق يسيطر عليها النظام وحليفاه: روسيا وإيران، وهي في أزيد بقليل من مساحة نصف سوريا، وتشمل مدن الوسط والغرب السوريين. وثمة الأراضي التي ظلت خارجة عن سيطرة النظام، وهذه تشكل نصف سوريا تقريباً، حيث تسيطر تركيا على الشمال السوري، من غرب الفرات إلى إدلب. أيضاً، لدينا الولايات المتحدة مع قوات “قسد” التي تسيطر على منطقة شرق الفرات إلى الحدود مع العراق، وهي المنطقة التي تحتوي أهم ثروات سوريا من النفط والغاز والقمح. وأخيراً من الجهة الرابعة هناك سيطرة مختلطة، مباشرة وغير مباشرة، لعديد من الأطراف، مثل روسيا والولايات المتحدة والأردن و”إسرائيل” على منطقة الجنوب، علماً أن “إسرائيل” مقررة في الشأن السوري، إن بتحكمها بالتوجهات الأميركية المتعلقة بسوريا، أو بحكم تشغيل ذراعها الطويلة في قصف قواعد وقوافل التسلح الإيرانية والميليشيات التابعة لها على الأرض السورية.
التحقيب للتحولات في الصراع السوري
عدا التقسيم يمكن أيضاً، تحقيب التحول في مسارات الثورة السورية بالآتي:
الحقبة الأولى: وقد شملت الفترة من مارس/ آذار إلى أكتوبر/ تشرين الأول2011، وعنوانها الصراع بين النظام وأغلبية السوريين، وقد اتّسمت بالحراكات الشعبية، التي غلب عليها طابع الاحتجاج السياسي والمظاهرات والاعتصامات الشعبية؛ السلمية الطابع، وكان من أهم مظاهر هذه الفترة الثورة العارمة في مدن درعا وحمص وحماه، وبعض مناطق دمشق وريفها.
الحقبة الثانية، نشأت نتيجة تغوّل النظام في مواجهة الحراكات الشعبية السلمية، وادخاله الجيش في معركته ضد الشعب، مما أدى إلى انشقاقات نجم عنها تأسيس “الجيش الحر” وفصائل عسكرية، كاستجابة للتشجيعات الخارجية، توجت بدخول مناطق في حلب وريفها في تموز/ يوليو 2012، وقد اتسمت هذه المرحلة بصعود الفصائل الإسلامية وهيمنتها على مشهد الصراع السوري. ومن جهة أخرى ففي تلك المرحلة صعدت “داعش” و”جبهة النصرة”، كنوع من ثورة مضادة؛ وما يجب إدراكه هنا هو ضرورة التمييز بين ظهور جماعات أو مبادرات الحماية الأهلية (المحلية) في الأرياف وفي أحياء المدن السورية كردة فعل على العنف المفرط من قبل النظام، وبين ظهور فصائل مسلحة مدعومة من الخارج، وذات أيديولوجية معينة وارتهانات سياسية معينة. والمهم أنه في تلك المرحلة جرى التحول من الثورة الشعبية إلى الصراع المسلح، مع المزاوجة بين النضال الشعبي السلمي والصراع المسلح ضد النظام.
الحقبة الثالثة، يمكن التأريخ لها من أغسطس/ آب 2012، وبدأت بتحول الجماعات المسلحة المعارضة نحو السيطرة على مناطق في المدن السورية، ما نجم عنه إضعاف شوكة النظام وكسر هيبته، لكن ذلك أدى أيضاً إلى شراسة النظام وإمعانه في التقتيل والتدمير في هذه المناطق وتهجير سكانها، بحيث حولها إلى حقل رماية ـ بكل معنى الكلمة – لقنابل طائراته وقذائف مدفعيته ودباباته، فضلاً عن تشديده الحصار عليها وجعلها بمثابة معتقلات كبيرة لمن تبقى فيها من السكان. وفي هذه المرحلة استطاع النظام تفكيك المناطق السورية الحاضنة للثورة وإضعافها، وتحويل قطاعات شعبية كبيرة من داعمة للثورة أو مساندة لها إلى عبء عليها، بعد تشريدهم من بيوتهم وتدمير ممتلكاتهم وحرمانهم من مصادر رزقهم. وبديهي أن بروز جماعات “القاعدة مثل “جبهة النصرة” و”داعش” أثر سلباً على نظرة أغلبية السوريين إلى ثورتهم، ونمت المخاوف لديهم من المستقبل، ولا سيما أن هذه الجماعات العسكرية المتطرفة حاولت فرض وجهات نظرها بطريقة قسرية وتعسفية وفجة عليهم.
الحقبة الرابعة، بدأت مع دخول روسيا كطرف مباشر في الصراع ضد السوريين في أيلول/ سبتمبر 2015، ومنذ ذلك الوقت، تراجعت فصائل المعارضة العسكرية، وانحسر دورها وضعفت قدراتها وخسرت مكانتها، وخرجت من معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها، واللافت أن كل ذلك جرى في زمن توافق ثلاثي تحالف أستانة (التركي، الروسي، الإيراني). وهذه المرحلة شهدت أيضاً، تراجع الصراع الداخلي بين النظام والمعارضة، لصالح التصارع بين الأطراف الخارجية أو تقاسم النفوذ بينها، بحيث بات من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، هي من يتحكم في وتائر الصراع في سوريا ومخرجاته.
الواقع اليوم
لم تعد المعادلة الصراعية اليوم قائمة على شعب أو معظمه، في مواجهة النظام ومن معه، أو بين قوى شعبية تتوخى الحرية والكرامة والديمقراطية، وبين نظام سياسي قائم على الاستبداد والإفساد، فثمة عوارض أخرى مهمة وفاعلة ومقررة كما بتنا نشهد.
وبمناسبة الجدل حول التوصيف بالثورة والحرب الأهلية، فما يفترض إدراكه وعدم انكاره، أنه ثمة فصائل مسلحة وإسلامية تقاتلت في ما بينها أكثر مما قاتلت النظام، هذا حصل في ريف دمشق وحلب وإدلب والدير وأريافها. أيضاً، ثمة فصائل عسكرية سورية محسوبة على تركيا قاتلت قوات عسكرية محسوبة على الأكراد وبالعكس، كما قاتلت سابقاً “الجيش الحر”، هذا إضافة إلى جبهة “النصرة” التي قاتلت الجميع لفرض سيطرتها في إدلب وريفها.
على ذلك لا يمكن توصيف الثورة السورية بطريقة ناجزة ويقينية، فهي ثورة مشروعة ومقاصدها نبيلة بيد إنها بسبب عوامل داخلية وخارجية، عرفت احترابات داخلية، وشهدت نوعاً من حرب أهلية، بين عدد من الأطراف، وإدراك الواقع هو أهم شيء لتغييره.
عموماً، ليست مشكلة الثورة السورية في توصيفها، إنما في المضمون الذي يقف في خلفية التوصيف، بتأكيد مشروعية حق السوريين بالتغيير والمواطنة، كما أن مشكلتها تكمن في أنها خسرت نفسها كثورة وطنية ديموقراطية حقاً، لعدم تمثلها ذلك في خطاباتها وبناها وممارساتها، وعجز القوى المتصدرة لها عن بناء كيانات سياسية وطنية، تمثل الموزاييك السوري (الطائفي والاثني) والحفاظ على مقاصدها النبيلة المتعلقة بالحرية والكرامة والمساواة لكل السوريين، بسبب التلاعبات والارتهانات التي خضعت لها أو استدرجت إليها.
باختصار، ربما كان الأفضل لو أن الثورات وضمنها السورية، أتت كاملة الجاهزية ومضمونة النجاح، بيد أن الأفضل أكثر لو أن سوريا انفتحت على التطور السياسي والحرية والديمقراطية بدون ثورة، لكن التاريخ لا يعمل على هذا النحو، والمجتمعات المهمشة والمحرومة من السياسة لا تجلب ثورة على القياس، لكنها تتعلم من كيسها وبالأثمان الباهظة.
المصدر: موقع درج ميديا