الحرية والقانون وثقافة اللغة الرقمية العارية
الحياة والوجود الإنساني بات منشطراً، بين تفاصيل الحياة اليومية الفعلية، وعلاقاتها، وأزماتها وتوتراتها وقلقها، وبين الحياة الرقمية. حالة من الانشطار والتداخل بين الفعلي والرقمي، بين الفوضى، والنظام والقانون، وتجاوزاته في الحياة الفعلية، وبين حالة من الحرية والمراقبة، والفوضى الرقمية العارمة، التي تبدو وكأنها حالة من الحريات واسعة النطاق، تتجلي في تعبير غالبية الجموع الرقمية الغفيرة عن ذواتها، وأفكارها البسيطة أو الساذجة، أو حول المعتقدات، أو بعض الأفكار القليلة التي تبدو جادة! أشكال متعددة وبلا حدود للتعبيرات، والمقولات الأخلاقية، والدينية، والشعارات، والاستعلاءات والتنمر والتحرش، ونظريات المؤامرة!.
حالة من السلوكيات ذات الطبيعة الاستعراضية تبدو في خطابات الحكمة الساذجة، وخبرات الحياة، والنصائح، والاستعلامات الفارغة على الآخرين، وتمدد لمفردات اللغة العنيفة، والسوقية والنابية المستمدة من ثقافة الخروج عما يطلق عليه الآداب والأخلاق والقيم في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات العربية. ثقافة الشارع وجنوحها اللاأخلاقي، ومفرداتها الجنسية الفاحشة، والمسبات الدينية، والنعوت الجنسية الخادشة، للحياء العام والفردي، يتم توظيفها في التعبيرات الفردية في نعت الآخرين، ومن يتم الاختلاف، أوالعداء أو التنافس معهم، هي جزء لا يتجزأ من الثقافات الشعبية في المجتمعات العربية، وهي أحد تجليات بعض الاختلالات في النظام الاجتماعي، والخروج السافر على قانون الدولة وما يطلق عليه الأخلاق، والآداب العامة، وغياب الوعي الاجتماعي بالقانون، واحترامه وعدم المساواة في التوازن بين المصالح المتصارعة في دول في تناقض مع منطق القانون منذ أن قال أرسطو ” الدولة الوحيدة هي التي يتساوي فيها الجميع أمام القانون “335 ق م” ولاتزال صنّو القانون والثقافة القانونية الحديثة والمعاصرة في الدول الديمقراطية التمثيلية. ثقافة الشارع تمثل أيضا الثقافة الشعبية الضد، للثقافة الشعبية والطقوسية والشكلانية الممارسة واللغة حول الدين وسردياته الوضعية، والأخلاق، والقيم في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات العربية سياسيا، واجتماعيا وتناقضاتها، وصراعاتها، وتوتراتها وقلقها ومخاوفها على اختلافها!
تتصاعد وتتمدد وتهيمن ثقافة الشارع العارية الضد، مع ازدياد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وتراجع مستويات الوعي الاجتماعي، والديني، والأهم إنها تشكل جزءاً من السلوك والخطاب الشخصي إلى جانب التدين الجماعي الشكلي النقلي الشعبي والسلفي وتوظيفه سياسيا، وكليهما يتم توظيفه من قبل الأشخاص والجموع الغفيرة بحسب الموقف الاجتماعي، من شجارات، وخلافات شخصية، وفي مواجهة الجيران، وزملاء العمل في الوظائف العامة، والخاصة، وأيضا في مجال العمالة اليومية والموسمية، وفي الأرياف والبوادي، والمدن المريفة وتنتشر الثقافة العارية في غالب الطبقات الاجتماعية مع خلافات طفيفة وخاصة مع الشعبوية الدينية أو السياسية.
ثقافة الشارع العارية الضد، وسماتها اللغوية وأوصافها الجارحة، تفقد في بعض الأحيان مع هيمنتها وتكرارها اليومي طابعها القدحي، وتغدو بذاءة وظيفتها، تفريغ طاقة الغضب والغل، أو الحقد، وغيرها من المشاعر السلبية المحمولة على الغضب والتنافس تجاه الآخرين.
لا شك أن ثقافة الشارع العارية الضد، تتغير من جيل لآخر في مفرداتها، وأوصافها، إلا إنها تدور حول النعوت الجنسية الجارحة ووصف بعضهم لآخرين بالمثلية الجنسية في بعض المجتمعات العربية، والمسبات الدينية، التي ترمي للحط من عقائد وكرامة الآخرين. الثورة الرقمية على بعض وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة التغريدات، والفيديوهات الوجيزة –الطلقة- على موقع X ، ساهمت في توسيع عمليات انتقال ثقافة الشارع الجانحة العارية إلى الحياة الرقمية، بل وأضافت الرقمنة حالة من الحرية واسعة النطاق وتوظيفها في التغريدات والتعليقات على موقع X وغيره، ولم تعد تشمل أوصافاً سوقية وبذيئة من شخص لآخر، أو من شخص لجماعة أو شعب ما، أو عقيدة أو مذهب ديني، وانما امتدت إلى الحياة السياسية المحاصرة أو الميتة في هذا المجتمع العربي، أو ذاك. تشمل ثقافة الشارع العارية الرقمية الضد – إذا جاز التعبير وساغ – لتشمل مسبات للزعماء، والقادة السياسيين، والملوك والمشايخ، والحكومات، والوزراء وكبار موظفي أجهزة الدولة من بعض المعارضات، أو من بعض المجموعات الرسمية الرقمية المنظمة، تجاه هؤلاء! في ذات الوقت وصلت الأوصاف السلبية والبذئية والعارية لتشمل شخصيات عامة، بالنظر إلى سلوكياتها الجنسية واللا أخلاقية، أو لموالاتها الرخيصة للحكام أيا كانوا، أو سلوك بعضهم الخدمي لأنظمة عربية أخرى وخاصة الميسورة سعيا وراء الحصول على منح وعطايا مالية، أو فرص للعمل والثراء في مجال الفنون كالسينما والمسرح والموسيقى والغناء والعمل الإعلامي.
تحول بعض ثقافة الشارع الرقمي العارية الضد من النقد الموضوعي لقادة وأنظمة سياسية استبدادية أو تسلطية عربية، وانتهاكاتها للحريات، أو لسياساتها الاقتصادية المختلة، أو بعض مسارها السياسي والإداري المعتل وغير الكفء، إلى دائرة السب والقذف. من هنا تباحث الحريات الواسعة للتعبير عن الرأي الرقمي – كنتاج لغياب الحريات الفعلية في غالب المجتمعات العربية – لا شك أن الثقافة الشعبية الرقمية العارية الضد، توظف الحريات الرقمية، دونما روادع قانونية، في إدراك غالبُ الجموع الرقمية الغفيرة، وهو ما يعكس أيضا غيابها في الحياة الفعلية، ومن ثم هي تعبير من تعبيرات ثقافة الفوضى الرقمية، وهيمنة الادعاءات، والأخبار والمعلومات الكاذبة، ونسبة آراء ومقولات لشخصيات شهيرة لم تقولها، أو نسج سرديات غير حقيقية عن بعض الشخصيات العامة والتاريخية والمعاصرة، والشهيرة!
لا شك أن الحياة الرقمية، ومنشوراتها، وتغريداتها وفيديوهاتها، وصورها… إلخ، تشكل الــBig data – البيانات الضخمة – التي توظفها الشركات الرقمية، وتبيعها للشركات الكبرى لإعادة تشكيل الرغبات، والسلوك الاستهلاكي المفرط، وفي ذات الوقت تخضع الجموع الرقمية الغفيرة لأنظمة رقابية من الشركات الرقمية الكبرى، وأيضا لأنظمة رقابية من أجهزة الدول الأمنية والاستخباراتية في عالمنا، ومن ثم هي حريات رقمية تحت الرقابة، على نحو اتسع مع هذه الأنظمة، وبرامج الرقابات الأمنية والاستخباراتية والسياسية.
لا شك أن الثقافة الرقمية لغالبية الجموع الغفيرة على الحياة الرقمية بعضها يشكل خروجا على الأنظمة القانونية الفعلية، وخاصة قانون العقوبات، والجرائم الخاصة بالسب والقذف، وخدش الحياء العام – المتغير في دلالاته.. إلخ – وجرائم الآداب العامة، والحض على السلوك الدعاري، على المستوى الآثاري، أو الاستعراضي المثير من خلال بعض الأفلام القصيرة عن السلوك العاري، أو جرائم الحض على الكراهية الدينية أو العرقية، والعنصرية، أو جرائم النصب الرقمية والجرائم المصرفية وخاصة العملات الرقمية وغيرها.. إلخ. بعض الجرائم الرقمية المستجدة تتطلب سياسة جنائية وعقابية مختلفة عن النظم القانونية العقابية والإجرائية الوضعية التي تنهض على سياسة جنائية للحياة الفعلية، ومن ثم ستظل هناك فجوات بين ثقافة الفوضى الرقمية، واللا نظام، وبين السياسات التشريعية الوضعية في الدول العربية، وهو ما يكرس استمرارية ثقافة اللانظام الرقمية التي تتمدد عربياً، بل وتنفجر على نحو متسارع.
لا شك أن إقرار الحريات العامة والشخصية في الدساتير والقوانين العربية، تؤدي إلى تنظيم هذه الحريات على نحو إيجابي، وفعال، وإلى تطوير الوعي القانوني والاجتماعي، وتساهم في تعزيزها، وتفجير الطاقات الفردية والجماعية، في إطار علاقة القانون، ومشروعات التنمية المختلفة، التنمية النيوليبرالية بكل مشاكلها، لا يمكن أن تنتج بعض الإيجابيات دونما تعزيز الحريات العامة والشخصية، وتنظيمها بفعالية على نحو يؤدي إلى بعض الانجازات على الرغم من مشاكل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في عالمنا العربي.
المصدر: الأهرام