لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟.. قراءة في كتاب المفكر الكبير محمد عابد الجابري “تكوين العقل العربي” (2)
في الاجابة على سؤال مصيري كهذا، يحاول محمد عابد الجابري العودة لتكوين العقل العربي، ذلك يستبطن أن الخلل يكمن في العقل العربي، بالتالي لابد من تشريح العقل العربي ونقده من داخله، أول خطوة في هذا الطريق هي معرفة مكونات العقل العربي، تلك خطوة جبارة بلا شك، عابد الجابري قام بمغامرة لم يسبقه إليها أحد، آخذين بالاعتبار ضخامة مشروعه، اتساع أفقه، عمق التحليل المطلوب.
في سياق ما سبق قدم الجابري مقاربته المعرفية في تحديد ثلاث مكونات للعقل العربي البيان والعرفان والبرهان، وحاول الغوص في ماهية كل مكون على حدة، ثم حاول التطرق لعلاقة تلك المكونات ببعضها بعضاً، تاريخياً، سياسياً، معرفياً. أيضاً علاقتها بالثقافات الأخرى.
في البدء تم تحديد تكون العقل العربي في عصر التدوين والترجمة بين القرن الثاني والثالث للهجرة، وأول مكوناته هو البيان الذي يتعين معرفياً بعلوم اللغة والفقه وما يتصل بهما من أدوات كالقياس “الاعتماد على الشاهد في معرفة الغائب” هذه الثقافة أنتجت آلية للتفكير، المادة هنا تنتج المصنع، والمصنع بآليته يعيد إنتاج المادة.
بالنسبة للعرفان فهو ليس ابناً أصيلاً للثقافة العربية كعلوم اللغة والفقه بالأحرى هو ابن ثقافات شرقية تزاوجت مع الثقافة اليونانية التي تخلت عن فلسفة أرسطو تلك التي تعتمد معرفة تبدأ بالأشياء المحسوسة لترتقي بها عبر المنطق نحو المعرفة اليقينية، هكذا فعندما تخلت الثقافة اليونانية عن أرسطو، في المرحلة التي سميت بالهلنستية بعد موت الاسكندر المقدوني واستقلال بطليموس بمصر، وفي الاسكندرية خصوصا نشأت الافلاطونية المحدثة لتختلط بفلسفات شرقية غنوصية ولتتشكل الفلسفة الهرمسية التي وصفت لدى الجابري بكونها فلسفة “العقل المستقيل” أي ترك البرهان العقلي كطريق للمعرفة والذهاب نحو الزهد والتخلي عن الشهوات، وتصعيد الجانب الأخلاقي، والتجرد عن الدنيا، والتأمل الذاتي الذي يمكن أن يوصل للتقرب من الآلهة ومنها للمعرفة الحقيقية عن طريق التوحد أو الذوبان في النهاية. (حيث الكل في واحد).
هذه الفلسفة شكلت مع تعديلات وإضافات المكون الثاني للعقل العربي أي “العرفان” وهو الذي وجد مكانته في التشيع الإسلامي حين استند ذلك التشيع لفكرة الإمام كخليفة للنبي لا يقل عنه في علاقته بالذات الإلهية وفي حلول تلك الذات فيه كما ذهب إليه غلاة الشيعة ومنهم الإسماعيلية والقرامطة. كما شاركت المتصوفة الشيعة في التأثر بالهرمسية حتى وصل بعض أعلامها كالحلاج لنظرية الحلول التام ووحدة الوجود “أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدناً”.
وفي النهاية لدينا “البرهان” كمكون ثالث للعقل العربي وهو الذي تأثر بأرسطو أساسا، لكن “البرهان” بقي مشوشاً بامتزاجه مع البيان كما في الفيلسوف والعالم ابن الهيثم، أو مع العرفان كما عند الغزالي ولم يظهر مستقلاً سوى عند ابن رشد في القرن السادس للهجرة في الأندلس.
لقد اضطررت لعرض مكونات العقل العربي باختصار كما أوردها الجابري من أجل التوقف بعد ذلك قليلاً عند صورة الجابري الكلية للعقل العربي في مكوناته.
فالجابري يرى الخلل في تركيبة العقل العربي هذه، الذي تغلب فيها البيان أولاً ثم العرفان أما البرهان فلم يحتل مكانه سوى في الأندلس على يد ابن رشد.
يعزو الجابري سكونية العقل العربي وفقدانه الحافز للتقدم كما عند العقل الغربي لاستغراقه في البيان والعرفان، وبسبب ذلك فقد توقفت مفاعيله بعد أن تكون في عصر التدوين والترجمة في القرن الثاني للهجرة وحتى القرن الثالث.
لكن هذا التحليل البنيوي للعقل العربي يصطدم بصخرتين تفقده شيئاً من تماسكه.
الأولى: أن “البرهان” كمكون للعقل العربي لم يكتمل سوى على يد ابن رشد في القرن السادس للهجرة.
الثانية: أن مكون “البرهان” مر بمراحل تاريخية وسيطة بمعنى أنه كان ينشأ شيئاً فشيئاً مما يناقض فكرة تمامية تشكل البرهان فيما أطلق الجابري عليه عصر تشكل العقل العربي وهو عصر التدوين والترجمة.
ومادام أن أحد مكونات العقل العربي ظل قيد التشكل حتى القرن السادس للهجرة فلم يعد ممكنا القول إن العقل العربي اتصف بالسكونية طالما كنا ننظر للعقل العربي في النهاية ككل واحد.
فإذا حاولنا وضع سردية مختلفة قليلاً أمكننا القول إن العقل العربي في تشكله التاريخي لم يتوقف خلال الفترة حتى القرن السادس للهجرة، فالعقل البرهاني الرشدي تكون ليس دفعة واحدة ولكن سبقه – كما يذكر الجابري نفسه في كتابه تكوين العقل العربي – مراحل جنينية تعود حتى ابن حزم الأندلسي وابن باجه وابن الطفيل.
بل إن الجابري يذكر كيف أن ابن الهيثم العالم الموسوعي الذي قدم إسهامات هامة للغاية في حقول البصريات والرياضيات والفيزياء كان يمثل العقل البرهاني التجريبي في أعلى مراحله التي استندت أوربة إليه ليس في اكتشافاته فقط ولكن في عقله البرهاني – التجريبي.
وهو الذي عاش بين القرنين الرابع والخامس للهجرة.
هكذا تصطدم سردية تمامية تشكل العقل العربي في عصر واحد هو عصر الترجمة والتدوين بين 132 – 232 للهجرة وانغلاقه بعد ذلك وسكونيته وتكراريته بعقبة كأداء في عدم مطابقتها الحقائق التاريخية.
صحيح أن “البيان” و”العرفان” استغرقا جانباً هاماً من العقل العربي لكنه ليس العقل العربي في تشكله التاريخي.
لقد اضطر الجابري من أجل تجاوز ذلك المطب إلى استبعاد المدرسة الرشدية إلى حد ما ووضعها جانباً في معظم سرديته التاريخية لكنه اضطر في النهاية لإظهارها ليس في معترك مقاربته للمكون المسمى بالبرهان ولكن على هامش تاريخية ذلك المكون وكاستثناء يؤكد القاعدة. خاصة أن ذلك العقل البرهاني لم يكتب له البقاء، ما يسر للجابري اعتباره مجرد ذروة منقطعة عن السياق بينما هو في الحقيقة في قلب ذلك السياق.
يحيلنا النقاش السابق لمسألتين: الأولى تكمن في السؤال: إذا كانت المشكلة في العقل العربي فكيف سمح ذلك العقل بالوصول لفلسفة ابن رشد المتفوقة تاريخياً، وكيف سمح بالاكتشافات العلمية ونشوء العقل التجريبي كما عند ابن الهيثم وكثيرين أمثاله؟
الثانية: ما الذي يكمن خلف انتكاسة العقل العربي نحو مكوناته التي تعاكس مفاعيل ومولدات التقدم، هذه الانتكاسة التي تشبه إلى حد كبير مصير الغزالي الذي قيل فيه إنه ابتلع الفلسفة ولم يتمكن من تقيئها والذي انحدر من “البيان” وشيء من “البرهان” نحو “البيان والعرفان” ثم ترك البيان نحو العرفان.
وبينما التقطت أوربة فلسفة ابن رشد لتبدأ بفضلها الاصلاح الكنسي والذي مهد للنهضة الأوربية في مواجهة الهرمسية التي سيطرت على الفكر المسيحي في العصور الوسطى. كنا نغادر تلك الفلسفة تماما لمئات السنين، ولابد من التوقف عند تعليل الجابري لذلك ثم العودة منه للعقل العربي في تكوينه وفي تاريخانيته المنبسطة حتى عصر النهضة أو ما يسمى بذلك.