قانون الدولة، والقيم الأخلاقية المضادة

img

عندما تذكر مفردة أخلاق في الخطاب العام للجموع الغفيرة في مجتمعاتنا العربية، تحملُ في أعطافها معانٍ إيجابية، بقطع النظر عن السلوك الاجتماعي الجمعي، الذي يبدو جلياً مناقضا لها، في تفاصيل الحياة اليومية في السلوك الفردي داخل الأسرة، وعلاقات الجيرة، والزمالة، بل والصداقة، وفي العمل!

تستخدم مفردة الأخلاق والأخلاقيات، وغيابها، أو انحلالها أو تفككها أو الانحراف عنها، لوصم وإدانة السلوكيات الاجتماعية المعيبة سواء على المستوى المجتمعي، أو الفردي ومن ثم حاملة معانٍ سلبية تماماً. يختلط مفهوم الأخلاق في الوعي والإدراك الفردي والجمعي بالثقافة الشعبية السائدة، وبالتقاليد التي تتم التنشئة الاجتماعية الحاملة لبعضها، في الطبقات الاجتماعية المختلفة أو في الأسرة، والعائلة، والقبيلة والعشيرة، والطائفة في المجتمعات العربية الانقسامية. من هنا تتباين إدراكات ومعانٍ، ودلالات، ومعايير الأخلاق، بين هذه المستويات من الانتماءات المختلفة بين حدي السلبية أو الإيجابية المبتغاة.

ثمة تداخل وخلط في المجتمعات العربية، بين الأخلاق والدين، والشائع في الوعي العام أن الأخلاق مصدرها الدين – أياً كان إسلامياً ومسيحياً ويهودياً – والمذهب من خلالهم – وغالباً يسيطر هذا الخلط في وعي غالب الفئات الاجتماعية، بقطع النظر عن الممارسات السلوكية الفردية أو الجماعية المغايرة لهذا المعنى.

الدين والأخلاق والخلط بينهما في الإدراك والوعي الفردي والاجتماعي غالباً ما ينطوي على أنماط التدين الشعبي الوضعي، ومحمولاته من التقاليد الموروثة – في الريف والبوادي، والحضر، والمدن التي باتت مريفة وخاصة في دول العسر العربي – والمصادر الدينية للأخلاق هي أدخل في أنماط التدين الشعبي الوضعي وأنماطه السائدة في كل مرحلة تاريخية، والقيم الاجتماعية الأخرى، التي تتداخل وتختلط مع القيم الأخلاقية، والأعراف، والعادات الموروثة والمتغيرة. الأنساق الأخلاقية، تبدو متغيرة من مرحلة لأخرى، بل وتتباين داخل كل جماعة ومجتمع، من حيث مواقع القوة، وبين السراة، والمعسورين، وأيضاً على الصعد المناطقية – زراعية، أو صحراوية، وحضر – وذلك قبل الانتقال إلى العصر الحديث، والتصنيع، والتحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والتعليمية والعلمية.

مما سبق تبدو الأخلاق وقواعدها ومعاييرها، هي جزء من عمليات التغير الاجتماعي، والخطاب حول الأخلاق غالباً، ما يكون دفاعياً عن قواعد أخلاقية، قديمة يتم استدعاؤها في مواجهة انتهاكات لها، لصالح قيم أخلاقية واجتماعية جديدة، وتناهض أو تهاجم القيم الأخلاقية التي كانت سائدة في مرحلة تاريخية سابقة، وقيم أخرى تجاوزتها. من هنا يثور التساؤل هل الأخلاق السائدة في بعض المجتمعات العربية تدعم أم تناهض قانون الدولة الحديثة؟

من المبادئ الأساسية في النظرية العامة للقانون، أن ثمة تمايز بين القواعد القانونية، وبين القواعد الأخلاقية، قد يحدث في بعض الأحيان، أن يحدث بعضاً من التداخل الجزئي بينهما، إلا أن قواعد القانون، هو تعبير عن الصراعات، والتوازنات بين المصالح الاجتماعية والاقتصادية المتعارضة، وهي تختلف عن القواعد الأخلاقية، وأيضاً بين الدين والقواعد القانونية علي الرغم من ان المصادر الدينية – الإسلامية والمسيحية واليهودية – تشكل نظام قانوني فرعي، في مجال نظم الأحوال الشخصية، إلا أن غالبية الأنظمة القانونية الكبرى – ذات المصادر الغربية اللاتينية، والإنجلوساكسونية – وتعديلاتها، وضعية وغربية بامتياز، بل أن نظم الأحوال الشخصية ذات المصادر الدينية السماوية، هي قواعد تأويلية وتفسيرية للنصوص الدينية في هذا الصدد، وبعض الاجتهادات المعاصرة إلى جانب الموروث الفقهي، واللاهوتي التاريخي الماضوي الموروث. القواعد القانونية تتميز بالضبط اللغوي، والاصطلاحي والدلالي على خلاف العمومية المفرطة للقيم الأخلاقية وسيولتها، وغموضها وتعدد وتناقض معانيها.. الخ.

ثمة أيضاً أخلاق قانونية تتمايز عن الأخلاق الاجتماعية والدينية السائدة، تتمثل في انصياع المواطنين للعقود المكتوبة والشفاهية، والتزام كل متعاقد بتنفيذ التزاماته في العقد، وفي العقود المدنية كافة، وعدم الالتواء والمراوغة في تطبيق هذه العقود.

من الأخلاق القانونية، احترام حقوق الجيرة، وقواعد المرور من السائقين، والعابرين. والالتزام بعدم السب والقذف في علانية، أو احترام الآداب العامة والنظام العام، واحترام خصوصية الآخرين، وهو ما قد يتمايز ويختلف عن الأخلاق العامة ذات المصدر الديني، أو المصادر الأخرى من التدين الشعبي، أو الأخلاق العامة السائدة في التركيبة الاجتماعية والمناطقية. ومن الشيق أن نلاحظ الحضور النسبي لمنظومة الأخلاق القانونية في الدول الأكثر تقدماً، من خلال احترام المواطنين للقانون، ومرجع ذلك تطور الوعي الاجتماعي والسياسي كنتاج لتطور التعليم وسياساته ومناهجه وارتباطها بالتطور العلمي والتكنولوجي. من ناحية ثانية التراكم التاريخي لثقافة المدينة الحديثة وما بعدها من تطورات، وأيضاً للتطورات الاقتصادية في سياق تطور الرأسمالية، ومعها الوعي الاجتماعي للطبقات العاملة، ونقاباتها، ومتابعتها للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تمس حقوق العمال، والدفاع عنها، وأيضاً الطبقة الوسطي، والتعبئة والتظاهرات في حال المساس بحقوقها ونمط حياتها، وخاصة في ظل السياسات النيوليبرالية وأبرز مثال لها مظاهرات السترات الصفراء التي حدثت في فرنسا، والدعوة للتعبئة والتظاهرات من خلال الواقع الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي. لا شك أن الثورة الرقمية فتحت الأفاق عن سعة لبعض من المتابعات والحوارات والرفض والنقد العنيف للقوانين الاجتماعية والاقتصادية الماسة بمصالح الطبقات العمالية والفلاحية والوسطي، وهو ما يساهم نسبياً في حساسية الوعي القانوني في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً، في غالب دول شمال العالم.

في دول الجنوب وخاصة عالمنا العربي، أدى تدهور النظم والسياسات التعليمية ومناهجها إلى تسطح ورداءة مخرجات النظام التعليمي كله بما فيه تراجع في مستويات التكوين العلمي والمعرفي والتخصصي للجماعات الأكاديمية، وعدم مواكبتها للتطورات التعليمية والعلمية في عالمنا، بالإضافة إلى الأعداد الكبرى من غير المتعلمين وأمية القراءة والكتابة، وأنماط الأمية الأخرى، ومنها الأمية الوظيفية، والأمية الثقافية، وأيضاً الأمية القانونية وغياب الوعي القانوني، واللامبالاة بالقوانين كنتاج لعدم العلم بها، أو لأنها تنطوي على مساس بمصالح الأغلبيات الشعبية والفئات الوسطى. ثمة حس جمعي يتفاقم بأن الدولة لا تعبرُ عن مصالح واحتياجات هذه الجموع الغفيرة، ومن ثم تمددت الفجوات بين الدولة والسلطات السياسية الحاكمة، وبين هذه الجموع التي باتت تفرض أنماط سلوكها المناهضة للقانون، من خلال ثقافة معادية للقانون من أسفل، وتفرضه، في ظل ما سبق أن أطلقنا عليه – منذ ثمانينيات القرن الماضي في صحيفة الأهرام – قانون الفوضى وثقافة الفوضى! التي تمددت وسيطرت على الحياة اليومية في عديد البلدان المعسورة عربياً! وساعد بقوة على ذلك غياب الأدوار الفاعلة للتشكيلات البرلمانية في اعداد التشريعات، والرقابة والمساءلة بفاعلية للسلطة التنفيذية، والقيود المفروضة على استقلال السلطات القضائية علي نحو عمق الفجوات بين الدولة ونظمها القانونية وبين غالبية المواطنين بل والخلط في الوعي الجمعي بين الدولة والسلطات الشمولية والتسلطية وبين الدولة!.

من الملاحظ تاريخياً، منذ دولة ما بعد الاستقلال في العالم العربي، أن قانون الدولة – كأحد أدوات السلطة السياسية ومصالحها والقوى الاجتماعية التي ترتكز عليها – استخدم كأحد أبرز أدواتها في السيطرة السياسية، والضبط الاجتماعي، وغالباً لا تراعي السلطة السياسية العربية الحاكمة، التوازن بين المصالح الاجتماعية المتصارعة، والمتعارضة إلا على نحو جزئي، وخاصة في ظل التحولات الرأسمالية، ثم تبني السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في غالب البلدان العربية.

لا شك أن الفجوات بين القوانين، ومصالح الفئات الاجتماعية الشعبية، والمتوسطة، في ظل سياسات النيوليبرالية، أدى إلى انتشار ظواهر الفساد السياسي والإداري، في السلطة وأجهزة الدولة، وبين أوساط الموظفين العموميين، خارج قانون الدولة، وبين المواطنين لإنجاز مصالحهم المشروعة، أو الخارجة على القانون، على نحو أدى إلى إنتاج “أخلاقيات” الفساد المضاد، على خلاف الخطاب اليومي حول الأخلاق الدينية، أو القيم الاجتماعية، وهو ما شكل قيم أخلاقية واجتماعية مضادة للقانون، ومن ثم إلى تشكل ثقافة مضادة للثقافة القانونية الحديثة.

من أبرز القيم الأخلاقية، والتدين الشعبي السائدة عربياً والمضادة للثقافة القانونية الحديثة، تتمثل في أيديولوجيات الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية، وبعض دعاة الطرق، وبعض رجال الدين الرسميين، بإقامة تناقضات بين قانون الدولة، والثقافة القانونية الحديثة، وبين قواعد النظام القانوني للشريعة الإسلامية. من ثم وصم القانون الحديث باللاشرعية الدينية، واختلافه عن قواعد الشريعة. من ثم إشاعة هذه المفاهيم الأساسية السائدة في منظوماتهم الأيديولوجية الدينية التأويلية الوضعية، بين أعضاء منظماتهم، أو بين القواعد الاجتماعية الشعبية، وبعض الوسطى – الصغيرة، والوسطى – الوسطى التي انتشروا داخلها!

لا شك أن ذلك أدى إلى إقامة تناقض جذري بين القيم والقواعد الدينية، والأخلاقيات التي ترتكز عليها، وبين قانون الدولة، ومن ثم أشاع نزعة المراوغة، وعدم احترام قانون الدولة، والقيم الأخلاقية القانونية بين الجمهور.

الأخطر أن التغيرات الكبرى في القيم الاجتماعية، أدت إلى تحولات مضادة في الأخلاق العامة النسبية والمتغيرة من خلال ثقافة الازدواجيات، بين القيم الأخلاقية المعلنة في الخطاب اليومي، وبين الأخلاقيات المضادة لها المضمرة، والمتجسدة في السلوك الاجتماعي الفعلي.

ساعد على هيمنة الأخلاقيات المضادة لقانون الدولة في عالمنا العربي، والأخلاقيات القديمة التي تأفل، ارتفاع معدلات الأمية بأنماطها كافة، وتناقض القانون الحديث مع الأعراف السائدة في الأرياف والبوادي، وبعض المناطق الحضرية المريفة، وتفاقم مشكلة العلم بالقانون لدى الغالبية العظمى من المخاطبين بأحكامه.

أحد أبرز المتغيرات البارزة التي أدت إلى هيمنة الأخلاق الجديدة المضادة للأخلاقيات الموروثة، وبعض الدينية، تتمثل في ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، والقيم الرقمية للجموع الرقمية الغفيرة التي رحلت من الواقع الفعلي والمجالات العامة المغلقة عربيا إلى حرية الواقع الرقمي. كشفت الحياة الرقمية عن غالب المستور، والمضمر من الأخلاقيات المضادة والقيم الاجتماعية السلبية -وبعضها إيجابي-، وخاصة تجاه بعض المنظومات القانونية العربية، أما من خلال استدعاء الخطاب الديني، ومحمولاته الثقافية النقلية المضادة، لقانون الدولة العربية ما بعد الكولونيالية، ووصمة بعدم المشروعية، والدعوة لنظام الشريعة الإسلامية. ثمة أيضاً رفض من الجموع الشعبية الرقمية الغفيرة للقوانين المقيدة للحريات العامة، وخاصة الرأي والتعبير، ونصوص قوانين العقاب بخصوص الإرهاب وتعريفاته، والجوانب الإجرائية، في قانون الإجراءات الجنائية.

امتدت عمليات التعبير والانكشاف الرقمية عن نهاية الحق في الخصوصية، من خلال المنشورات أو التغريدات، أو الفيديوهات الوجيزة، حيث الاستعراضات الجسدية. التي تخدش بعضها الحياء العام والآداب العامة، وذلك سعياً وراء الحصول على تفضيلات من المشاهدين والمشاركين الرقميين للحصول على المال من الشركات الرقمية الكونية الكبرى، بل أن بعضهن/هم يستخدمون الحياة الرقمية، من أجل ارتكاب بعض جرائم الآداب العامة، أو جرائم القتل والنصب.. الخ.

إن التغيرات الجيلية في ظل ظواهر عدم فاعلية قانون الدولة في غالب العالم العربي، أدت إلى اللامبالاة بأوامره ونواهيه، على الرغم من قيام السلطات الأمنية العربية بمتابعة بعض السلوكيات المضادة للقانون على الحياة الرقمية، وإلقاء القبض على بعضهن/هم! إلا أن انفجار القيم الأخلاقية الجديدة المضادة للقانون، في حالات تغير واتساع وتضخم، بعضهم يدرك أنه ينتهك القوانين، وغالب القائمين بهذه الأفعال لا يدركون أنها مخالفة للقوانين، في الواقع الفعلي. ويرجع ذلك إلى الانفجار السكاني، والفجوات في المعرفة والوعي الاجتماعي، والأخطر تدني الوعي القانوني، والأخلاقيات القانونية، مقارنة بالمراحل التاريخية ما بعد الكولونيالية، وبناء الدولة الوطنية.

لا شك أن بعض المشرعين في العالم العربي، بدؤوا في تجريم بعض الأفعال الرقمية الحاملة للجنوح السلوكي، إلا أن ذلك لا يبدو مؤثراً على انفجار القيم اللاأخلاقية المضادة لقانون الدولة، ومن ثم يتطلب ذلك الحاجة إلى فلسفة قانونية جديدة، وأيضاً إلى سياسات تشريعية جديدة وإصلاحية تحمي مصالح الجموع الغفيرة الفعلية، ولا تنحاز إلى مصالح القلة من السراة في مرحلة النيوليبرالية الاقتصادية، وخاصة في دول العسر العربية.

المصدر: الأهرام


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة