ثقافة قانون الدولة والثقافة المضادة

الثقافة القانونية أوسع نطاقاً من النظم القانونية الوضعية الحديثة، لأنها تشمل إدراكات وعقائد المشرع الإيديولوجية والدينية والمذهبية، واختياراته بين المصالح الاجتماعية المتصارعة والمتنافسة في مرحلة تاريخية ما. وتنطوي أيضاً على توازنات القوى الاجتماعية، ومواقع القوة داخلها، التي تحدد أولويات المصالح وانحيازاتها التي ينحاز لها المشرع، وفي ذات المستوى تشمل تراكمات التقاليد والوعي الاجتماعي حول مدى فاعلية القوانين، وتعديلاتها في التأثير على توجهات السلوك الاجتماعي المتغير للمخاطبين بأحكامه. الثقافية القانونية، تنطوي كذلك على إدراكات ومواقف المواطنين إزاء القوانين، ومدى التزامهم بها، أو الانحراف عنها أو التلاعب بها.
ثمة مكون هام للثقافة القانونية بالمعني الواسع لها يتمثل في مجتمعاتنا العربية، في منظومة العقائد الدينية والمذهبية السائدة بين مكونات المجتمع وجماعاته الأساسية، وموقفها من علاقة الدين والمذهب بالقوانين الحديثة، وهل تتوافق معها، أو تتصارع أو تتكامل، وهو ما تكشف عنه مواقف الجماعات الإسلامية السياسية من القانون الوضعي، ورفضت كلياً – أو بعضه، وتفضيل النظام القانوني للشريعة الإسلامية.
الثقافة القانونية السائدة لدى الجموع الشعبية الغفيرة، تتمثل في نظرتهم وإدراكهم لقانون الدولة ومدي وفاءه بمصالحهم، أو تناقضه معها، وأيضا بمجمل الأساطير والتصورات السائدة لديهم حول المعرفة بالقوانين – مشكلة العلم بالقانون، وهي مشكلة عامة في غالب دول جنوب العالم – وحول مدى فعالياتها في التطبيق، وحول علاقة مراكز القوة الاجتماعية، والثروية، والسلطوية بالقانون، وإنه وضع لتحقيق مصالحهم، أو إنهم لا يطبقون القوانين عليهم وفق ما يشاع عربياً لدي هذه الطبقات الشعبية والوسطى الصغيرة، وبعض الوسطى – الوسطى!
مثل هذه التصورات، والأفكار الشائعة – بقطع النظر عن مدى دقتها – تشكل واحدة من أبرز العقبات البنيوية في تطبيق قانون الدولة، وأنظمته المختلفة ذات الأصول الكولونيالية – اللاتينية والإنجلوسكسونية، والأنظمة المخلطة – في العالم العربي.
أحد أبرز معوقات عمليات تمثل قانون الدولة وحملُ السلوك الاجتماعي عليه انضباطاً، واحترامه في التطبيق، تتمثل في تمدد الجماعات الدينية السياسية التي تتخذ من انتقاد وجحد شرعية القانون الوضعي الحديث، ومجافاته ورفضه لأنه يتنافى مع النظام القانوني للشريعة الإسلامية، وإنها هي الواجبة التطبيق والالتزام عقيدة وشرعاً.
أدى هذا الموقف الإيديولوجي السياسي وعقله النقلي التأويلي إلى شيوعه بين أعضاء هذه الجماعات، وذويهم وبعض أقاربهم، والأخطر تمدده وسط بعض القواعد الاجتماعية التي تتحرك داخلها وتجند من بينها، بل ومن أوساط بعض الجماعات والنقابات المهنية. إنكار هذه الجماعات الإسلامية السياسية، والجماعات السلفية، ودعاة الطرق – وفق تعبير طه حسين – الذي يتمركز حوله خطابهم الإيديولوجي النقلي، والدعوى على الربط العضوي بين السلوك الاجتماعي المتغير، ومحمولاته ودوافعه، وتناقضاته الفردية، والجماعية، وبين المثال العقيدي – وفق الفقه النقلي الوضعي الماضوي – وخاصة في سردياته الوضعية التاريخية من قبل الفقهاء والتابعين وتابعي التابعين حول النص المقدس – تعالى وتنزه – والنصوص السيرية – من سيرة الرسول (صلعم) – وتأويلاتها وتفسيراتها.
لا شك أن هذه التصورات الإيديولوجية المؤسسة على الموروث الديني الوضعي، دونما اجتهاد، تثير الشكوك، والرفض من الجموع الشعبية الغفيرة إزاء القانون الحديث، لصالح ما يروج له من هذه الجماعات، ودعاة الطرق على أنه قواعد الشريعة والعقيدة والإيمان. يتناسى غالبهم – أو يتنكر – أن الشريعة وقواعدها العامة، تتطلب اجتهادات مبدعة تتناسب مع تحولات كل عصر، ومجتمع، وتحولاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتعليمية، والعلمية والتقنية. ومتطلبات الاجتهادات الخلاقة وفق ضوابطها أن تستصحب تعقيدات وتحولات ظواهر الحياة، والسلوك الاجتماعي المتغير في كل بلد عربي أساساً وأن ذلك يتطلب اجتهادات خلاقة توفق بين النصوص العامة، ومتغيرات وتحولات كل مرحلة تاريخية، ومجتمع.
الثقافة القانونية الدينية الوضعية الشعبية، يتم ترويجها، وإشاعتها، من خلال دمجها مع السرديات الشعبية، والنزعات القدرية، والحتميات “الدينية” في التدين الشعبي، وتغيرات الطبيعة، والأمثولات الشعبية، لاسيما في المناطق الريفية الزراعية، وفي البوادي، والمناطق الصحراوية في العالم العربي. هذا الربط بين المرويات الشعبية والخوارق في الوعي والمخيال الجماعي والدين، روج لها هذا النمط بعض من الخطابات الدينية السياسية والسلفية الوضعية في مواجهة قانون الدولة ودحض شرعيته الدينية.
لا شك أن الانفجارات السكانية في غالب دول العسر الاقتصادي والاجتماعي العربية أدت إلى تضخم المجتمع، وخاصة مع العسر الاجتماعي وتدني مستويات التعليم ونوعيته، ومن ثم الوعي الاجتماعي والسياسي والحداثوي علي نحو أدى إلى أن المجتمع بات أضخم، وأكثر فاعلية من النظام السياسي الاستبدادي، أو التسلطي، ومن ثم بات مؤثراً على مدى قدرة أجهزة الدولة على التعامل معه في المجالات كافة، على نحو باتت قوة الجموع الشعبية الغفيرة أكثر فاعلية وقدرة على فرض تصوراتها المضادة لقانون الدولة خاصة في مستويات المراوغة والتحايل على القوانين، من خلال آليات الفساد الإداري والسياسي، وفرض قانون الرشى لغالب الموظفين العموميين عليهم ومن المواطنين تجاههم في التحايل على القوانين، أو الحيلولة دون تطبيقها، والأهم أيضاً الأحكام القضائية، التي لا يجد بعضها ظلاً في التطبيق كنتاج لقانون الرشى الواقعي في غالب دول العسر واليسر العربية.
إن ظاهرة قانون المكانة والقوة الاجتماعية والسلطوية يشكل أيضاً أحد عوائق تطبيق القانون في العالم العربي، والأخطر أنه بات يشكل في ذاته ثقافة مضادة لقانون الدولة، وشاع بين الجموع أن الرشى، والمكانة والنفوذ الاجتماعي والسلطوي، يمثلون قوة قانون الواقع الموضوعي من أسفل إزاء قانون الدولة!
من الشيق ملاحظة أن الثقافة المضادة لقانون الدولة – في العالم العربي – لم تعد قاصرة على الحياة الواقعية، والثقافة الدينية الوضعية الشعبية، وإنما باتت الثورة الرقمية تفرض أشكالاً من رفض بعض القوانين واللوائح والقرارات الإدارية، والسخرية منها، وإثبات أن ثمة مصالح تقف وراءها، أو أنها نظرة على المنشورات والتغريدات، والفيديوهات الطلقة، والوجيزة.
الخطابات الرقمية المكتوبة والمرئية باتت تشكل أداة للتأثير الفعال على بعض المشاركين في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال الخطاب حول فساد رجال الأعمال، وبعض رجال السلطة، وموظفي جهاز الدولة البيروقراطي، وأنهم يخالفون القوانين، على نحو أصبح يؤثر على إدراك الجماهير الرقمية الغفيرة إزاء قبول قانون الدولة واحترام قواعده، والمراوغة، والتهرب من تطبيقه في الحياة الفعلية.
لم تعد العوائق إزاء قانون الدولية واقعية فقط وإنما العوائق الرقمية، باتت مؤثرة على الإدراك، والسلوك الاجتماعي الفعلي.
إحدى مشاكل الثقافة القانونية الحديثة في العالم العربي، هي عدم إدراك غالبُ المشرعين العرب لتحولات الواقع الفعلي، وتشابكه، وظواهره الاجتماعية الجديدة والمتغيرة، وكيفية التعامل معها!
الأخطر أن غالبهم يعتمدون على مشروعات القوانين المقدمة من السلطات التنفيذية، ولأسباب “سياسية”، وطبقية محضة، يقومون بتمريرها، وغالباً دونما فحص وتحليل لطبيعة المصالح الاجتماعية التي تحميها هذه القوانين، وتناقضها مع مصالح الأغلبيات الشعبية، ومن ثم لا يدركون أنها تتناقض مع المصالح الكلية للدولة من حيث استقرارها السياسي والاجتماعي، والأمني.
إن الثقافة القانونية السائدة في العالم العربي تحملُ عديداً من التناقضات البنيوية، بين الثقافة القانونية الحداثية، وبين الثقافة الدينية الجاحدة لها، وبين الثقافة المضادة لها من أسفل. من ثم نحن أمام مشكلة كبرى تحتاج إلى دراسات سوسيو – قانونية، وسياسية في كل دولة ومجتمع عربي، لمواجهتها، في ظل عالم مختلف ومتغير.
المصدر: الأهرام