نهاية معجزة الاقتصاد الصيني
آدم أس. بوسن
اندبندنت عربية: 2023/11/4
كيف يمكن لمعاناة بكين أن تكون فرصة تستفيد منها واشنطن؟
مع اقتراب نهاية عام 2022، تزايدت الآمال في أن الاقتصاد الصيني، وبالتالي الاقتصاد العالمي، على وشك تحقيق قفزة. بعد ثلاث سنوات من القيود الصارمة على حرية الحركة والتنقل، والاختبارات الجماعية الإلزامية، وعمليات الإغلاق التي لا نهاية لها، قررت الحكومة الصينية فجأة التخلي عن سياسة “صفر كوفيد” التي كبحت الطلب، وأعاقت التصنيع، وأضرت بخطوط الإمداد، وأدّت إلى أكبر تباطؤ شهده اقتصاد البلاد منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية الداعمة للسوق في أواخر سبعينيات القرن الماضي. وفي الأسابيع التي تلت تغيير السياسة، ارتفعت الأسعار العالمية للنفط والنحاس والسلع الأساسية الأخرى وسط توقعات بارتفاع الطلب الصيني. وفي مارس (آذار)، أعلن رئيس الوزراء الصيني آنذاك لي كه تشيانغ أن معدل النمو المُستهدَف للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي سيبلغ حوالى 5 في المئة، وقد توقع كثير من المحللين الخارجيين أن يسجل ارتفاعاً أكبر بكثير.
في مستهل الأمر، شهدت بعض أجزاء الاقتصاد الصيني نمواً بالفعل. إذ إن الطلب المكبوت على السياحة المحلية، والضيافة، وخدمات التجزئة، أسهم بشكل قوي في عملية التعافي. زادت الصادرات في الأشهر القليلة الأولى من عام 2023، وبدا أنه حتى سوق العقارات السكنية المتعثر قد أنهى تراجعه. ولكن، مع حلول نهاية الربع الثاني، كشفت أحدث بيانات الناتج المحلي الإجمالي عن صورة مختلفة تماماً. وجاء النمو الإجمالي ضعيفاً وتبيّن أنّه يسلك اتجاهاً تنازلياً. واختار المستثمرون الأجانب الحذرون والحكومات المحلية التي تعاني ضائقة مالية عدم الاستفادة من ذلك الزخم الأولي [الذي أعقب إغلاقات كورونا الواسعة].
وكذلك تبيّن أن هذا التغيير في المسار أكثر أهمية من التوقعات النموذجية المفرطة التفاؤل التي لا تصيب الهدف المنشود. في الواقع، تتجلى خطورة المشكلة في انخفاض نسبة استهلاك السلع المعمرة ومعدلات الاستثمار في القطاع الخاص في الصين التي وصلت إلى أنها مثلت مجرد نسبة ضئيلة مما سجلته في أوقات سابقة. وترافق ذلك مع ارتفاع معدل ادخار الأسر في البلاد. وتُظهر هذه الاتجاهات القرارات الاقتصادية الطويلة الأجل التي يتخذها الناس بصورة إجمالية. وتشير بقوة إلى أن الناس والشركات في الصين باتوا يخافون على نحو متزايد من فقدان القدرة على الوصول إلى أصولهم، وبالتالي فإنهم يعطون الأولوية للسيولة القصيرة الأجل، وليس الاستثمار. والجدير بالذكر أن عدم عودة هذه المؤشرات إلى مستوياتها العادية لما قبل كورونا، إضافة إلى عدم نموها بعد إلغاء تدابير الإغلاق وإعادة فتح البلاد، على غرار ما حدث في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، يُعد علامة على وجود مشكلات عميقة.
ويتمثل ما أصبح واضحاً بأن الربع الأول من عام 2020 الذي شهد بداية جائحة كورونا، يُعتَبَرُ بمثابة نقطة اللاعودة في السلوك الاقتصادي الصيني، الذي بدأ في التبدّل خلال عام 2015، حينما وسّعت الدولة سيطرتها عليه. ومنذ ذلك الحين، سجّلت مدخرات الأسر، حينما تُحتسب كجزء من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعاً بنسبة هائلة بلغت 50 في المئة ولا تزال عند هذا المستوى العالي. وانخفض استهلاك القطاع الخاص للسلع المعمرة بنحو الثلث مقارنةً مع أوائل عام 2015، واستمر في الانخفاض منذ إعادة فتح البلاد بدلاً من أن يعبر عن الطلب الكامن. ويُعتبر الاستثمار الخاص أضعف حتى، إذ انخفض للمرة الأولى في تاريخ البلاد بنسبة الثلثين منذ الربع الأول من عام 2015، بما في ذلك انخفاض بـ25 في المئة منذ بدء الجائحة. ويستمر هذان الشكلان الرئيسان لاستثمارات القطاع الخاص في الاتجاه نحو مزيد من الهبوط.
وفي الحقيقة، تجاهلت الأسواق المالية، وربما حتى الحكومة الصينية ذاتها، مدى خطورة نقاط الضعف هذه، التي من المرجح أن تؤدي إلى عرقلة النمو سنوات عدة. يمكن أن نسميها حالة “كوفيد اقتصادي طويل الأمد”. ومثل مريض يعاني من تلك الحالة المزمنة، لم يستعد جسم الاقتصاد الصيني حتى الآن عافيته وحيويته وما زال كسولاً وضعيفاً حتى بعد انتهاء المرحلة الخطرة التي تمثّلت بثلاث سنوات من إجراءات الإغلاق الصارمة والمكلفة للغاية التي اعتمدتها سياسة “صفر كوفيد”. وتؤثر هذه الحالة على النظام بأكا=مله، ولا يمكن توفير العلاج الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه، المتمثل في تقديم ضمانات موثوقة للشعب الصيني العادي والشركات بأن هناك حدوداً لتدخل الحكومة في الحياة الاقتصادية.
يجب علينا أن ندرك حقيقة أن الصين مصابة بحالة “كوفيد اقتصادي طويل الأمد”. لقد تأتّى ذلك نتيجة استجابة الرئيس شي جينبينغ للوباء بشكل مبالغ فيه، وقد حفزت [الاستجابة] ديناميكية عانت منها دول استبدادية أخرى، مع أنّ الصين تجنبتها سابقاً في حقبة ما بعد ماو تسي تونغ [بدأ الانفتاح الاقتصادي في الصين بعد وفاة مؤسس الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ، ثم سقوط سيطرة المجموعة الملتزمة بمبادئه تحت قيادة زوجته، وعرفت بإسم عصابة الأربعة. بعدها، انفتحت الصين على أميركا والغرب، خصوصاً تحت قيادة المفكر الاقتصادي دينغ خيسياو بينغ].
في الواقع، تميل التنمية الاقتصادية في الأنظمة الاستبدادية إلى اتباع نمط يمكن التنبؤ به، ويتمثّل بحدوث فترة من النمو يسمح أثناءها النظام للشركات المطيعة سياسياً بالازدهار، مدعومةً بإعانات الحكومة السخية. ولكن بمجرد أن يضمن النظام بأنه حصل على الدعم اللازم، يبدأ تدخله في الاقتصاد بطرق تعسفية على نحو متزايد. وفي نهاية المطاف، في مواجهة حالة من عدم اليقين والخوف، تبدأ الأسر والشركات الصغيرة في تفضيل المدخرات النقدية على الاستثمار غير السائل. ونتيجة لذلك، يتراجع النمو بشكل مستمر.
منذ أن بدأ دينغ خيسياو بينغ بتطبيق سياسة “الإصلاح والانفتاح” في الاقتصاد الصيني في أواخر سبعينيات القرن العشرين، قاومت قيادة الحزب الشيوعي الصيني عمداً الرغبة العارمة في التدخل في القطاع الخاص لفترة أطول بكثير من غالبية الأنظمة الاستبدادية. ولكن في عهد شي جينبينغ، خصوصاً منذ بداية الوباء، لجأ الحزب الشيوعي الصيني مجدداً إلى الوسائل الاستبدادية. وفي حالة الصين، لم يشكل الفيروس السبب الأساسي لحالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” في البلاد. بالأحرى، تمثّل المذنب الرئيسي بالاستجابة المناعية التي أبدتها عامة الناس في وجه التدخلات المتطرفة [الآتية من الحكومة]، الأمر الذي أنتج اقتصاداً أقل ديناميكية.
بالتالي، يقدم هذا التراجع المستمر لصانعي السياسات الأميركيين فرصة لإعادة ضبط الجانب الاقتصادي في استراتيجية واشنطن تجاه الصين واعتماد نهج أكثر فعالية وأقل إيذاءً للذات من ذلك الذي اتبعته إدارة ترمب، ولغاية الآن، إدارة بايدن.
ولّت أيام “لا سياسة، لا مشكلة”
قبل الوباء، اعتمدت الغالبية العظمى من الأسر الصينية والشركات الخاصة الصغيرة على اتفاق ضمني معمول به منذ أوائل الثمانينيات “لا سياسة، لا مشكلة”. ويعني ذلك أن يسيطر الحزب الشيوعي الصيني في نهاية المطاف على حقوق الملكية، ولكن طالما ظل الناس بعيدين عن السياسة يبقى الحزب بعيداً عن حياتهم الاقتصادية. وتوجد تلك التسوية المؤقتة في كثير من الأنظمة الاستبدادية التي ترغب في الإبقاء على مواطنيها راضين ومنتجين، وقد نجح هذا الأسلوب بشكل رائع في الصين على مدى العقود الأربعة الماضية.
حينما تولى شي منصبه في عام 2013، شرع في حملة شرسة بغية مكافحة الفساد، وشاءت الصدف أنها قضت في طريقها على بعض أهم منافسيه، من أمثال عضو المكتب السياسي السابق بو شيلاي. ولاقت هذه الإجراءات استحسان معظم المواطنين. ففي نهاية المطاف، مَنْ قد لا تعجبه فكرة معاقبة المسؤولين الفاسدين؟ ولم تنتهك تلك الحملة الميثاق الاقتصادي [لا سياسة، لا مشكلة]، لأنها لم تستهدف إلا بعض أعضاء الحزب، الذين يشكلون في المجموع أقل من سبعة في المئة من السكان. وبعد بضع سنوات، ذهب شي إلى أبعد من ذلك من خلال إخضاع عمالقة التكنولوجيا في البلاد. في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، جعل قادة الحزب من “جاك ما” [مؤسس شركة “علي بابا” العالمية الذائعة الصيت]، عملاق التكنولوجيا الذي انتقد علناً الجهات التنظيمية في الدولة، عبرةً للجميع، من خلال تأخير الطرح العام الأولي لإحدى شركاته، “أنت غروب” Ant Group، وإبعاده عن الحياة العامة. وأبدى المستثمرون الغربيون ردود فعل تتسم بالقلق. ولكن، هذه المرة أيضاً كان الصينيون بمعظمهم إما سعداء أو غير مبالين. إذ لم يأبهوا كثيراً بالطريقة التي تعاملت بها الدولة مع ممتلكات عدد قليل من أفراد الأوليغارشية غير المهمين بالنسبة إلى حياة الناس الاقتصادية اليومية.
وفي المقابل، شكّلت استجابة الحكومة للوباء مسألة مغايرة تماماً. إذ جاءت السلطة التعسفية التي يمارسها الحزب الشيوعي الصيني على الأنشطة التجارية الخاصة بجميع الناس، واضحةَ وملموسةَ، بما في ذلك أنشطة أصغر الجهات الفاعلة. لقد أمكَنَ إغلاق حي أو مدينة بأكملها إلى أجل غير مسمى، وإغلاق شركات البيع بالتجزئة من دون أي تعويض يذكر، واحتجاز السكان في المجمعات السكنية، وإيقاف حياتهم وسبل عيشهم بصورة مؤقتة، من دون إنذارهم بذلك إلا قبل بضع ساعات فحسب.
لقد مرت جميع الاقتصادات الكبرى بنوع من الإغلاق في وقت مبكر من الجائحة، ولكن لم يشهد أي منها تدابير مباغتة وحادة ولا هوادة فيها مثل تلك التي اتخذتها الصين لمكافحة الوباء. لقد كان تطبيق سياسة صفر كوفيد قاسياً بقدر ما كان تعسفياً في تطبيقه المحلي، الذي بدا أنه يتبع نزوات مسؤولي الحزب فحسب. وشبّه الكاتب الصيني مورونغ شويكون تلك التجربة بحملة سجن جماعية. وفي بعض الأحيان، حتى المجتمعات الغنية والنافذة في بكين وشنغهاي عانت من نقص في المواد الغذائية والأدوية التي تتطلب وصفة طبية والرعاية الطبية للحالات الحرجة. وفي الوقت نفسه، انخفض النشاط الاقتصادي بشكل حاد. وفي شركة فوكسكون Foxconn، وهي واحدة من أهم الشركات المصنعة لصادرات التكنولوجيا في الصين، اشتكى العمال والمديرون التنفيذيون على حد سواء علناً من أن شركتهم قد يتم استبعادها من سلاسل التوريد العالمية.
وما تبقى اليوم هو خوف منتشر على نطاق واسع لم نشهده منذ أيام ماو ــ الخوف من خسارة ممتلكات المرء أو مصدر رزقه، سواء بشكل مؤقت أو إلى الأبد، بدون سابق إنذار وبدون أي حق في الطعن. هذه هي القصة التي يرويها بعض المغتربين، وهي تتطابق مع المعطيات الاقتصادية. كانت سياسة صفر كوفيد استجابة لظروف غير عادية، ويتفق كثير من الصينيين مع ادعاء شي بأن هذه السياسة أنقذت عدداً أكبر من الأرواح مقارنةً بالنهج الغربي. ومع ذلك، فإن طريقة تنفيذ المسؤولين المحليين لهذه السياسة بدون أي هوادة تبقى حاضرة ومحفورة في الذاكرة.
يقول البعض إن قرار الحزب الشيوعي الصيني بالتخلي عن سياسة صفر كوفيد في أواخر عام 2022 بعد موجة من الاحتجاجات العامة يشير على الأقل إلى بعض الاحترام الأساسي، وإن كان متأخراً، للرأي العام. لقد كان هذا التحول المفاجئ بمثابة “انتصار” للمتظاهرين، على حد تعبير صحيفة نيويورك تايمز. ولكن، لا يمكن أن نقول الشيء نفسه عن الشعب الصيني العادي، على الأقل في ما يخص حياتهم الاقتصادية. قبل شهر من الإنهاء المفاجئ لسياسة صفر كوفيد، أخبر كبار مسؤولي الحزب الجمهورَ المحلي أن يتوقع تخفيفاً تدريجياً في القيود المفروضة بسبب الوباء؛ بيد أن ما تلا ذلك بعد بضعة أسابيع كان بمثابة تغيير مفاجئ وكامل. ولم يؤد هذا التحول المباغت إلا إلى زيادة شعور الشعب الصيني بأن وظائفهم وأعمالهم وروتينهم اليومي تظل تحت رحمة الحزب وأهوائه.
وبطبيعة الحال، كان هناك عوامل كثيرة أخرى لعبت دوراً في الاقتصاد الصيني الضخم والمعقد طوال هذه الفترة. نجمت حالات فشل الأعمال والقروض المتأخرة عن فقاعة عقارية انفجرت في أغسطس (آب) 2021، ولا تزال تشكل عائقاً مستمراً أمام النمو، وهي تواصل الحد من التمويل المحلي الذي تقدّمه الحكومة. ولا تزال المخاوف من الإفراط في التنظيم أو ما هو أسوأ بين أصحاب شركات التكنولوجيا قائمة أيضاً. لقد تسببت القيود التجارية والتكنولوجية التي فرضتها الولايات المتحدة على الصين في إحداث بعض الضرر، وكذلك فعلت ردود الصين الانتقامية. قبل ظهور فيروس كورونا بفترة طويلة، بدأ شي في تعزيز دور الشركات المملوكة للدولة وزاد من إشراف الحزب على الاقتصاد. ولكن الحزب اتبع أيضاً بعض السياسات الداعمة للنمو، بما في ذلك عمليات الإنقاذ، والاستثمار في قطاع التكنولوجيا الفائقة، وسهولة توفير الائتمان. على الرغم من ذلك، أوضحت الاستجابة لفيروس كورونا أن الحزب الشيوعي الصيني هو صانع القرار النهائي بشأن قدرة الناس على كسب لقمة العيش أو الوصول إلى أصولهم – وأنه سيتخذ القرارات بطريقة تعسفية على ما يبدو مع تغير أولويات قيادة الحزب.
القصة القديمة نفسها
وبعد تحدي الإغراءات لعقود من الزمن، رضخ الاقتصاد السياسي في الصين في عهد شي جينبينغ أخيراً لنمط مألوف في الأنظمة الاستبدادية. في الواقع، تميل تلك الأنظمة إلى البدء باتفاق “لا سياسة، لا مشكلة”، الذي يَعِد بسير العمل على النحو الاعتيادي لأولئك الذين يبقون خاضعين. ولكن بحلول فترة الولاية الثانية للحكام، أو الثالثة في أغلب الأحيان، يتجاهلون على نحو متزايد المخاوف التجارية ويتبعون سياسات تدخل كلما كان ذلك مناسباً لأهدافهم القصيرة الأجل. إنهم يجعلون من عدد قليل من المنافسين السياسيين والشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات عبرةً للآخرين. وبمرور الوقت، يمتد خطر سيطرة الدولة على التجارة اليومية ليطال شرائح أوسع من السكان. على مدار فترات متفاوتة، سلك هذا الطريق القديم المعروف كل من هوغو تشافيز ونيكولاس مادورو في فنزويلا، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وفيكتور أوربان في المجر، وفلاديمير بوتن في روسيا.
وعندما ينتهك نظام استبدادي راسخ اتفاق “لا سياسة، لا مشكلة”، تصبح العواقب الاقتصادية واسعة النطاق. وفي مواجهة حالة عدم اليقين الخارجة عن سيطرتهم، يحاول الناس تأمين أنفسهم. فيتشبثون بأموالهم؛ ويستثمرون وينفقون أقل مما اعتادوا عليه، خاصةً على الأصول غير السائلة مثل السيارات، والمعدات والمرافق الخاصة بالأعمال الصغيرة، والعقارات. ويتحول تفاديهم المتزايد للمخاطرة ومدخراتهم الاحترازية المتنامية إلى عائق أمام النمو، تماماً كما يحدث في أعقاب أزمة مالية.
وفي الوقت نفسه، تتضاءل قدرة الحكومة على توجيه الاقتصاد وحمايته من صدمات الاقتصاد الكلي. وبما أن الناس يعرفون أن سياسة معيّنة يمكن فرضها بشكل تعسفي، وأنه قد يتم توسيع نطاقها ذات يوم ثم إلغاؤها في اليوم التالي، فإنهم يصبحون أقل استجابةً لخطط التحفيز وما إلى ذلك. وهذا أيضاً نمط مألوف. في تركيا، على سبيل المثال، ضغط أردوغان في السنوات الأخيرة على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة، وهو أمر كان يأمل أن يغذي طفرة استثمارية؛ ولكن ما غذاه عوضاً عن ذلك هو التضخم المتصاعد. وفي المجر، فشلت حزمة كبيرة للتحفيز المالي والنقدي في تخفيف تأثير الجائحة الاقتصادي، على الرغم من نجاح تدابير مماثلة في البلدان المجاورة.
ومن الممكن رؤية نمط مشابه في الصين لأن شي تسبب في ارتفاع الاستجابة المناعية التي يبديها القطاع الخاص الصيني في مواجهة التدخل الحكومي. والجدير بالذكر أن حزم التحفيز التي تم تقديمها منذ نهاية سياسة صفر كوفيد، والهادفة إلى تعزيز الإنفاق الاستهلاكي على السيارات وغيرها من السلع المعمرة، لم تكتسب قدراً كبيراً من الاهتمام. وفي النصف الأول من هذا العام، فإن نسبة الشركات الصينية التي تقدمت بطلبات للحصول على قروض مصرفية ظلت ضعيفة كما كانت تقريباً في عام 2021، بلغت نسبتها نصف المتوسط الذي كانت عليه قبل كوفيد، على الرغم من الجهود التي بذلها البنك المركزي ووزارة المالية للتشجيع على الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة. هذا الإقبال المنخفض على الاستثمارات غير السائلة وانخفاض الاستجابة لسياسات الاقتصاد الكلي الداعمة: يمثل باختصار حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد”.
بمجرد أن يفقد النظام الاستبدادي ثقة الأسر المتوسطة والشركات، يصبح من الصعب استعادتها. والعودة إلى الأداء الاقتصادي الجيد وحده لا تكفي، لأنها لا تتجنب خطر التدخلات أو الاستيلاء على الممتلكات في المستقبل. والجدير بالذكر أن نقطة الضعف [كعب آخيل] لدى المستبد هي افتقاره في الأصل إلى القدرة على ضبط النفس بشكل مضمون. فالالتزام الجاد بضبط نفس من هذا النوع يعني الاعتراف بإمكانية إساءة استخدام السلطة. وتُعتبر مشكلات الالتزام هذه هي على وجه التحديد السبب وراء قيام الدول الأكثر ديمقراطية بسن الدساتير، والسبب الذي يجعل مجالسها التشريعية تمارس الرقابة على الموازنات.
وسواء عمداً أم بغير قصد، قطع الحزب الشيوعي الصيني مسافات بعيدة في الاتجاه المعاكس. وفي مارس (آذار)، قام البرلمان الصيني، المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، بتعديل إجراءاته التشريعية لجعل إقرار تشريعات الطوارئ أكثر سهولة، بدلاً من تصعيبها. والآن أصبح مثل هذا التشريع لا يتطلب إلا موافقة اللجنة الدائمة للمجلس فحسب، التي تتألف من أقلية من كبار الموالين للحزب. لقد تجاهل كثير من المراقبين الخارجيين أهمية هذا التغيير، بيد أن تأثيراته العملية على السياسة الاقتصادية لن تمر من دون أن يلاحظها أحد بين الأسر والشركات، التي سوف تظل أكثر عُرضة لأوامر الحزب.
والنتيجة هي أن حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” هي أكثر من مجرد عائق مؤقت للنمو. ومن المرجح أن يبتلي الاقتصاد الصيني بها لسنوات. والتوقعات الأكثر تفاؤلاً لم تأخذ بعد في الاعتبار هذا التغيير الدائم. وبقدر ما ألقى المتوقعون الغربيون والمنظمات الدولية بظلال من الشك على آفاق النمو في الصين لهذا العام أو العام المقبل، فقد ركزوا اهتمامهم على مشكلات يمكن ملاحظتها بسهولة مثل مخاوف الرؤساء التنفيذيين بشأن قطاع التكنولوجيا الفائقة الخاص والهشاشة المالية في قطاع العقارات. إن هذه القصص المتمحورة حول قطاعات معينة هي قصص مهمة، لكن تأثيرها على النمو في الأمد المتوسط أقل بكثير من تأثير حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” التي أصابت المستهلكين والشركات الصغيرة بشكل عام، حتى لو كانت هذه الأعراض أقل وضوحاً للمستثمرين والمراقبين الأجانب. (قد يكون هذا واضحاً في نظر بعض المحللين الصينيين، ولكنهم لا يستطيعون الإشارة إليه علانية). وعلى الرغم من أن السياسات المحددة الأهداف قد تؤدي إلى إلغاء المشكلات التي تقتصر على قطاع معين، فإن الأعراض الأوسع سوف تستمر.
في الأشهر الأخيرة، لجأ “بنك أوف أميركا” Bank of America ، و”وحدة الاستخبارات الاقتصادية” Economist Intelligence Unit، ومصرف “غولدمان ساكس” Goldman Sachs مثلاً، إلى تعديل توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني في عام 2023، فخُفِضَتْ بما لا يقل عن 0.4 نقطة مئوية. ولكن نظراً لأن استمرارية حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” لم تتضح بعد، ولأن عدداً من التوقعات تفترض على نحوٍ مغلوط أن برامج التحفيز في بكين ستكون فاعلة، يستمر مراقبو الوضع في الصين في المبالغة بشأن تقدير آفاق النمو في العام المقبل وما بعده. ومن الممكن أن تكون توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في عام 2024 من قبل “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (التي توقعت نسبة نمو توازي 5.1 في المئة) وصندوق النقد الدولي (الذي توقّع نسبة أقل تواضعاً تبلغ 4.5 في المئة) غير دقيقة بنسبة 0.5 في المئة أو أكثر. ومع مرور الوقت، ستزداد الحاجة إلى تعديل هذه التوقعات وتصحيحها نحو الانخفاض.
وسوف ترتفع مدّخرات القطاع الخاص في الصين، وتقل استثماراته، ويأخذ قدراً أقل من المخاطر مقارنةً بما كان عليه قبل حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد”، ناهيك عن فترة ولاية شي الثانية. وسيكون استهلاك السلع المعمرة واستثمارات القطاع الخاص أقل استجابةً لسياسات التحفيز. وسوف تكون العواقب المحتملة هي اقتصاد أكثر تقلباً (لأن سياسة الاقتصاد الكلي ستكون أقل فعالية في تحفيز الأسر والشركات الصغيرة على التعويض عن فترات الركود) ومزيداً من الدين العام (لأن الأمر سوف يتطلب حوافز مالية إضافية لتحقيق التأثير المنشود). وهذا بدوره سيؤدي إلى انخفاض متوسط النمو الاقتصادي بمرور الوقت عن طريق خفض نمو الإنتاجية، بالإضافة إلى خفض الاستثمار الخاص على المدى القريب.
وعلى الرغم من ذلك فإن شي وغيره من قادة الحزب الشيوعي الصيني قد يعتبرون هذا ببساطة بمثابة إثبات لاعتقادهم بأن مستقبل البلاد الاقتصادي لا يكمن في القطاع الخاص بقدر ما يكمن في الشركات المملوكة للدولة. وحتى قبل الوباء، كان الضغط الحكومي يدفع البنوك وصناديق الاستثمار إلى تفضيل الشركات المملوكة للدولة في قروضها، في حين كان الاستثمار في القطاع الخاص يشهد تراجعاً. وقد توصل بحث أجراه الخبير الاقتصادي نيكولاس لاردي إلى أن حصة الاستثمار السنوي المخصص لشركات القطاع الخاص في الصين بلغت ذروتها في عام 2015، وأن الحصة المملوكة للدولة كانت ترتفع بشكل ملحوظ منذ ذلك الحين، عاماً بعد عام. وسوف تعزز حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” هذا الاتجاه لسببين. أولاً، سوف يفضل مستثمرو القطاع الخاص والشركات الصغيرة توخي الحذر والاحتفاظ بالسيولة بدلاً من تقديم رهانات كبيرة ممولة بالقروض. ثانياً، إن أي تخفيضات ضريبية أو برامج تحفيز تستهدف القطاع الخاص من شأنها أن تحقق منافع فورية أقل من تلك التي يحققها الاستثمار في قطاع الدولة. أضف إلى هذا دفع شي المستمر نحو الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا المتقدمة، الأمر الذي يُخضع نسبة متزايدة من قرارات الاستثمار لمزيد من السيطرة الحزبية التعسفية، مما يجعل آفاق نمو الإنتاجية والعوائد على رأس المال أكثر قتامة.
سياسة الباب المفتوح
المرض الحالي الذي تعانيه الصين قد يثلج قلوب المسؤولين الأميركيين وحلفائهم، الذين يرى بعض منهم أن النمو الصيني القوي يشكل تهديداً. بيد أن اقتصاداً صينياً أبطأ نمواً وأقل استقراراً سيكون له أيضا جوانب سلبية بالنسبة إلى بقية العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. إذا واصل الصينيون الادخار بدلاً من الاستثمار واستمروا في إنفاق مزيد من المال على الخدمات المقدمة محلياً بدلاً من الإنفاق على التكنولوجيا والسلع المعمرة الأخرى التي ينبغي استيرادها، فإن فائضهم التجاري الإجمالي مع بقية العالم سوف يستمر في النمو، على الرغم من أي جهود رامية إلى تقليصه على غرار تلك التي بذلها ترمب. وعندما يحدث ركود عالمي آخر، فإن نمو الصين لن يساعد في إنعاش الطلب في الخارج كما حدث في المرة السابقة. ويتعين على المسؤولين الغربيين أن يخفضوا توقعاتهم، وألا يبالغوا في ابتهاجهم.
كذلك، يجب ألا يتوقعوا أن يؤدي “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” إلى إضعاف قبضة شي على السلطة في المستقبل القريب. وكما يمكن لأردوغان وبوتين وحتى مادورو أن يشهدوا، فإن المستبدين الذين ينتهكون ميثاق “لا سياسة، لا مشكلة” يميلون إلى البقاء في مناصبهم على الرغم من تباطؤ النمو، لا بل تراجعه في بعض الأحيان. والمفارقة هنا هي أن زعماء ومسؤولي الأحزاب المحلية يمكنهم في كثير من الأحيان الحصول على مزيد من الولاء من السكان الذين يعانون، على الأقل لفترة من الوقت. وفي بيئة اقتصادية غير مستقرة، ترتفع مكافآت الوقوف إلى جانبهم – ومخاطر إثارة غضبهم – وتقل البدائل الآمنة لطلب رعاية الدولة أو التوظيف. وقد يتخذ شي تدابير اقتصادية ترمي إلى إخفاء العيوب لبعض الوقت، كما فعل أوربان وبوتين بنجاح، باستخدام أموال الاتحاد الأوروبي وعائدات الطاقة، على التوالي. ومع الإنفاق الحكومي المحدد الهدف والتدابير الخاصة بقطاعات معيّنة، مثل إعانات دعم الإسكان العام والضمانات العامة بأن الحملة التي تشنها الحكومة على شركات التكنولوجيا قد انتهت، ربما يظل شي قادراً على تعزيز النمو بشكل مؤقت.
لكن تلك الديناميكيات لن تدوم إلى الأبد. وكما أشار كثير من المراقبين بحق، فإن البطالة بين الشباب في الصين مرتفعة إلى حد مثير للقلق، وخاصة بين العمال من ذوي التعليم العالي. وإذا استمرت سياسات الحزب الشيوعي الصيني في تقليص الفرص الاقتصادية والاستقرار المتاحة للشعب على المدى الطويل، فسوف ينمو السخط تجاه الحزب. واستطراداً، هناك بين الأغنياء، بعض الذين أمّنوا أنفسهم بالفعل. وفي مواجهة انعدام الأمن، فإنهم ينقلون إلى الخارج كل مدخراتهم وإنتاج الأعمال والاستثمار، لا بل يهاجرون حتى إلى أسواق أقل تقلباً. وبمرور الوقت، سوف تبدو مثل هذه المخارج أكثر جاذبية لشرائح أوسع من المجتمع الصيني.
وحتى لو ظلت تدفقات الأصول المالية الصينية إلى الخارج محدودة في الوقت الحالي، فإن الحوافز الطويلة الأجل واضحة: فبالنسبة إلى المدخرين الصينيين العاديين، الذين يحتفظون بمعظم، وربما كل، مدخراتهم في هيئة أصول مقومة باليوان، كان شراء الأصول في الخارج منطقياً حتى قبل اندلاع الجائحة. وأصبح من المنطقي أكثر الآن أن آفاق النمو في الداخل تتضاءل، وأن المخاطر الناجمة عن نزوات الحزب الشيوعي الصيني آخذة في الارتفاع.
ويتعين على الولايات المتحدة أن ترحب بهذه المدخرات، جنباً إلى جنب مع الشركات والمستثمرين والطلاب والعمال الصينيين الذين يغادرون البلاد بحثاً عن مراعي أكثر خضرة [بحثاً عن فرص أفضل]. لكن السياسات الحالية، التي سنتها إدارتا ترمب وبايدن، تفعل العكس. فهي تسعى إلى إغلاق أبواب الجامعات والشركات الأميركية في وجه الطلاب والعمال الصينيين. وتقيد الاستثمار الأجنبي الداخلي وتدفقات رأس المال، وتثني الشركات الصينية عن الانتقال إلى الولايات المتحدة والاقتصادات الحليفة، سواء من أجل الإنتاج أو البحث والتطوير. وهي تخفف الضغوط التي تدفع قيمة اليوان إلى الانخفاض وتقلل، في نظر الشعب الصيني العادي، التناقض بين سلوك حكومتهم وسلوك الولايات المتحدة. وينبغي تغيير هذه السياسات.
لكنّ تخفيف هذه القيود ليس من المفترض أن يشمل تقليل الحواجز التجارية، مهما كان ذلك مفيداً للسياسة الاقتصادية والخارجية للولايات المتحدة وفقاً لشروطها الخاصة. في الواقع، إذا حقق الاقتصاد الأميركي نجاحاً أكبر في جذب رؤوس المال والعمالة والابتكارات الصينية المثمرة، فإن هذه التدفقات إلى الداخل ستعوّض جزئياً عن التكاليف الاقتصادية الكبيرة المتكبدة نتيجة للصراع التجاري الأميركي مع الصين. وبطريقة موازية، لن تحتاج واشنطن أيضاً إلى تخفيف قيود الأمن القومي على التقنيات الحيوية. ومن أجل منع عمليات نقل المستثمرين الصينيين للتكنولوجيا غير المشروعة، يتعيّن على الولايات المتحدة وحلفائها، بطبيعة الحال، تقييد الوصول إلى بعض القطاعات المحددة، تماماً كما يقيدون بعض الصادرات الحساسة. ولكن في الحقيقة، فإن معظم سرقة الملكية الفكرية الصينية من الشركات الأميركية تتخذ شكل الجرائم الإلكترونية، والهندسة العكسية، والتجسس الصناعي القديم، أي أنها، في معظمها، تحتاج إلى معالجة مباشرة بوسائل أخرى، غير تقييد دخول الاستثمار الأجنبي.
إن إزالة معظم الحواجز التي تعترض المواهب ورأس المال الصيني لن تؤدي إلى تقويض ازدهار الولايات المتحدة أو أمنها القومي. بيد أن ذلك سيجعل من الصعب على بكين الحفاظ على اقتصاد متنامٍ يكون في الوقت نفسه مستقراً، ويعتمد على نفسه، ويخضع لرقابة حزبية مشددة. وبالمقارنة مع الإستراتيجية الاقتصادية الحالية التي تعتمدها الولايات المتحدة تجاه الصين، وهي استراتيجية أكثر تصادمية وتقييداً وعقاباً، فإن النهج الجديد من شأنه أن يقلل من خطر التصعيد الخطير بين واشنطن وبكين، وسيثبت أنه أقل إثارة للخلاف بين حلفاء الولايات المتحدة والاقتصادات النامية. ويتطلب هذا النهج التأكيد على أن الشعب الصيني، والمدخرات، والتكنولوجيا، والعلامات التجارية الصينية موضع ترحيب في الولايات المتحدة؛ على النقيض من جهود الاحتواء التي تستبعدهم بشكل علني.
وتستفيد اقتصادات أخرى عديدة، بما في ذلك أستراليا وكندا والمكسيك وسنغافورة والمملكة المتحدة وفيتنام، بالفعل من تدفقات الطلاب والشركات ورؤوس الأموال الصينية. ومن خلال القيام بذلك، فهي تعمل على تحسين قوتها الاقتصادية وإضعاف قبضة الحزب الشيوعي الصيني في الصين، ويمكن تحقيق الحد الأقصى من الفعالية إذا حذت الولايات المتحدة حذوها. وإذا مضت واشنطن في طريقها الخاص عوضاً عن ذلك، ربما لأن الإدارة الأميركية القادمة ستختار المواجهة المستمرة أو مزيداً من العزلة الاقتصادية، فيجب عليها على الأقل السماح للدول الأخرى بتوفير مخارج ثانوية للشعب الصيني والتجارة الصينية، بدلاً من الضغط على تلك الدول لاعتماد حواجز الاحتواء التي تقيمها الولايات المتحدة. عندما يتعلق الأمر بالتجارة الصينية في القطاع الخاص، يجب على الولايات المتحدة أن تفكر في جذبها إليها، وليس فرض عقوبات عليها، خاصة وأن الحزب الشيوعي الصيني يمارس سيطرة أكثر صرامة على الشركات الصينية.
وكلما حاولت بكين درء تدفقات عوامل الإنتاج الاقتصادي المفيدة إلى الخارج- على سبيل المثال، من خلال الحفاظ على ضوابط صارمة على رأس المال والحد من إدراج أسهم الشركات الصينية في البورصات أو أسواق الأموال الأميركية – كلما ازداد الشعور بعدم الأمان الذي يدفع تلك التدفقات إلى الخارج في المقام الأول. وقد جرب مستبدون آخرون هذه الاستراتيجية المدمرة ذاتياً [التي تأتي بنتائج عكسية]؛ واضطر كثيرون إلى الإبقاء على ضوابط رأس المال المؤقتة سارية إلى أجل غير مسمى، مما دفع الناس والشركات إلى بذل مزيد من الجهود لتجنبها. وكما رأينا مراراً وتكراراً في أميركا اللاتينية وأماكن أخرى، بما في ذلك خلال فترة زوال الاتحاد السوفياتي بشكل نهائي، فإن مثل هذه السياسات تحفّز على نحو ثابت تقريباً مزيداً من تدفقات البشر ورؤوس الأموال إلى الخارج.
إن معاناة الاقتصاد الصيني مع حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” تمثل فرصة لصانعي السياسات في الولايات المتحدة من أجل تغيير الاستراتيجية. وبدلاً من محاولة احتواء نمو الصين بتكلفة باهظة يتكبّدها اقتصاد الولايات المتحدة، يستطيع القادة الأميركيون أن يسمحوا للرئيس شي بالقيام بعملهم نيابة عنهم وجعل بلادهم بديلاً أفضل ووجهة ترحب بالأصول الاقتصادية الصينية بجميع أنواعها. وحتى المسؤولون المطلعون يميلون إلى التقليل من تقدير مدى فائدة هذه الاستراتيجية للولايات المتحدة في التعامل مع خصومها النظاميين في القرن العشرين. كثيراً ما ننسى أنه خلال أزمة الكساد الأعظم لم يكن من الواضح على الإطلاق أن الاقتصاد الأميركي قادر على التفوق على الأنظمة الفاشية في أوروبا، وتكررت حالة عدم يقين مماثلة بشأن أداء النمو النسبي في معظم فترة الحرب الباردة. على الرغم من حالة عدم اليقين تلك، خرجت الولايات المتحدة منتصرة ويعود ذلك جزئياً إلى أنها أبقت الباب مفتوحاً للناس ورأس المال، وجذبت المواهب والاستثمارات، وفي نهاية المطاف، جعلت الضوابط الاقتصادية التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية تنقلب على تلك الأنظمة نفسها بدلاً من أن تخدمها. وبينما يناضل الحزب الشيوعي الصيني لمكافحة حالة “الكوفيد الاقتصادي الطويل الأمد” الذي أصاب نفسه بها، تستحق هذه الاستراتيجية أن يعاد إحياؤها اليوم.