في ازدواجية العقل العربي

في إحدى محاضراته تحدث الفيلسوف والأستاذ الجامعي فؤاد زكريا عن ازدواجية العقل العربي وضرب لذلك مثلا كيف أن بعض المثقفين العرب من حملة الأفكار الداعية للحرية والديمقراطية نسوا ذلك كله حين أيدوا اجتياح صدام حسين للكويت عام 1990، وفي الحقيقة لست أدري تماما هل الازدواجية التي تحدث عنها فؤاد زكريا تنتمي للعقل العربي أم للشخصية العربية، على أية حال، فتلك مسألة تستحق الوقوف عندها باعتبارها عاهة مستدامة للشخصية العربية وكونها كذلك يفرض وجود جذر عقلي يبرر وضع فؤاد زكريا لها ضمن نقد العقل العربي.
لكن السؤال من أين جاءت تلك الازدواجية؟
ببساطة من انغلاق الفكر العربي الاسلامي لمئات السنين، هذا الانغلاق الذي كان نتيجة لسيادة العقل “البياني” الذي وصفه عابد الجابري والذي يعادي حرية التفكير منذ أن انتصر فكر الغزالي المتشدد وانهزم فكر المعتزلة وأصبح يوصف بالزندقة على نطاق واسع لدى رجال الدين.
فالانغلاق تحول بعد ذلك من نتيجة إلى سبب لاضطهاد العقل العربي ودفعه نحو التكرار بدلاً من الإبداع، واستمر ذلك منذ القرن الخامس الهجري وحتى عهد قريب إن لم نقل حتى اليوم.
فمنذ القرن الخامس الهجري فقدت الشخصية العربية الشعور بالحرية واستقلال العقل تحت سطوة المجتمع الذي ساد فيه التشدد الديني، ولم يبق أمامها سوى الباطنية والتستر “التقية” لتعبر عن الاختلاف، تلك الباطنية التي أصبحت ميداناً للتطرف واللجوء لمفاهيم غير عقلانية مستمدة من خارج الثقافة العربية الإسلامية كرد فعل على سطوة المجتمع والخوف الذي كان يشل أي تفكير حر عقلاني.
كل المجتمعات المغلقة وخاصة منها ذات البنية القبلية أو شبه القبلية تضع قوالب حديدية مسبقة لشخصية الفرد وطريقة تفكيره وسلوكه الاجتماعي، ولا تكتفي بذلك بل تنتج أدوات مراقبة تقتفي كل شاردة وواردة يقوم بها، فالفرد فيها يشعر أنه يعيش في مساحة مزروعة بكاميرات المراقبة على مدار الساعة.
مثل تلك المجتمعات لا تنتج شخصية سوية مستقلة بل شخصية مأزومة مزدوجة السلوك وهذا ما يفسر كيف أن الفرد فيها ينقلب فجأة من النقيض للنقيض حالماً يشعر أنه متحرر من مراقبة المجتمع.
ومثلما كان سلوكه سابقاً لا يعبر سوى عن الخوف يصبح سلوكه لاحقاً لا يعبر سوى عن ردة الفعل، فيبدو متطرفاً وغير عقلاني.
مشكلة الشخصية العربية أن تلك الازدواجية تكرست عبر مئات السنين حتى انتقلت جذورها من حقل السلوك إلى حقل العقل.
بحيث أصبح التخلص منها لا يحتاج فقط إلى انفتاح المجتمع وحرية الفكر ولكن إلى النفاذ للعقل العربي في مكوناته الفكرية ووضعه تحت مجهر النقد.