مصير الصراعات الطائفية

img

معقل عدي

يمكن النظر إلى الصراعات الطائفية التي تعصف اليوم بالمشرق العربي بطريقة مشابهة إلى حد ما بالصراعات الطائفية التي عصفت بأوربة منذ القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر .
أحد الفروقات في المشهدين أن الصراعات الطائفية في أوربة اندلعت مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر وأسست المذهب البروتستانتي ثم انشقاق كالفين عن البروتسانتية نحو الكالفينية , وكان ذلك في مواجهة الكاثوليكية المحافظة ومن أجل التخلص من البابوية وسلطتها المستبدة , أما الصراعات الطائفية لدينا فهي انبعاث لتاريخ قديم من الإنشقاقات ضمن الاسلام .
والفرق الآخر أن الصراعات الطائفية الأوربية انتهت بصورة تامة مع نهاية القرن الثامن عشر وانفتح بعدها العقل الأوربي نحو الحداثة والمفاهيم العلمية والمدنية خاصة مع الثورة الفرنسية عام 1789 وما حملته من أفكار طالت المجتمع والدولة وأعادت الإعتبار لإنسانية الإنسان وكرامته بغض النظر عن أصله ودينه وطبقته . أما الصراعات الطائفية في منطقتنا فهي تجري في القرن الواحد والعشرين متخلفة بأكثر من مئتي عام عن مفاهيم الحضارة الانسانية التي أصبحت عالمية الطابع .
ليس ذلك فحسب بل تحاول تلك الصراعات شد المجتمعات نحو الوراء , وتقف عقبة كأداء في طريق التقدم .
فما هو المشترك إذن بين الصراعات الطائفية في أوربة وعندنا في المشرق العربي ؟
أهم عامل مشترك هو استنفاذ الطاقة الكامنة داخل تلك الصراعات مع الحروب والمواجهات العنيفة , فهي تستهلك ذاتها مع كل معركة , وشيئا فشيئا تتبدد طاقتها الكامنة , وهي طاقة غير قابلة للتجدد في هذا العصر , لينتهي الأمر بفنائها وإخراجها من التاريخ
ومانشهده اليوم في العراق ولبنان أن الأجيال الجديدة لم تعد تحتمل الطائفية وأدواتها السياسية , والوعي يزداد كل يوم بضرورة التخلص من عبئها الثقيل , لكن المشكلة التي تواجه الأجيال الجديدة عندما تكافح ضد الطائفية أن الطائفية تراكبت مع البنية السياسية والقانونية للدولة , بالتالي فالتخلص من الطائفية يعني تفكيك بنية الدولة السياسية والأمنية بما في ذلك الأحزاب والمنظمات السياسية الطائفية والبرلمان الطائفي وجميع مؤسسات الدولة التي تم تشكيلها في ظل قانون المحاصصة الطائفي .
جميع تلك الهياكل والمؤسسات سوف تقف في مواجهة أية محاولة للتخلص من الطائفية في نهاية المطاف , فالطائفية هي بيئتها الحاضنة والأرضية التي وجدت عليها , وإلغاء الطائفية يعني نهاية وجود تلك الهياكل والمؤسسات والقضاء على مصالحها وكل ما بنته من امتيازات وثروات, لذلك فهي تتوحد بالرغم من صراعاتها الداخلية في وجه حركة الأجيال الجديدة المطالبة بإلغاء الطائفية .
لكن أزمة الطائفية أنها عاجزة عن تقديم الحلول المطلوبة لإنهاض اقتصاد البلاد , ورفع مستوى المعيشة , وتأمين فرص العمل للشباب , ومواجهة الفساد المرافق للبنية الطائفية لكونه جزءا لايتجزأ من بنيتها الداخلية .
وهذا ما تقوله تجربة ثمانية عشرعاما من الدولة الطائفية في العراق , وما يقوله المصير البائس للبنان الذي ينحدر اليه اليوم , والشباب في لبنان والعراق على حق تماما في الربط بين الطائفية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية واستشراء الفساد .
تكبل الطائفية تفتح العقل , وتمنع مكافحة الفساد , وتضع فوق المجتمع نخبا رجعية فاسدة وعاجزة عن النهوض بالبلاد , وهي مضطرة للجوء إلى إيقاظ المشاعر الطائفية بين الحين والآخر لتأمين استمرار وجودها في مواجهة الوعي الوطني الديمقراطي الصاعد .
لكنهافي النهاية تحارب حربا دفاعية تراجعية مهما طالت المدة لإسقاطها وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية البديلة .
في العراق ماقبل الغزو الأمريكي عام 2003 لم يكن النظام ديمقراطيا بل كان نظاما ديكتاتوريا – بوليسيا , لكن بنية الدولة لم تكن طائفية, رغم وجود بعض الإمتيازات في المناصب بين طائفة وأخرى ضمن حالة موروثة عن تاريخ العراق الحديث منذ تأسيسه عام 1921 , أما المجتمع العراقي فلم يشهد في تاريخه الحديث على الأقل أية مواجهات طائفية . بالتالي فهناك نقلة مصطنعة جاءت بتخطيط أمريكي يستثمر المشاعر الطائفية الدفينة , ويعيد نبشها وإنتاجها باستخدام نخب لاتتمتع بأي كفاءة أو مصداقية ولا يميزها سوى طابعها الطائفي وعن طريق تلك النخب بما في ذلك رجال الدين جرى التسويق لهيكلة الدولة على أساس المحاصصة الطائفية فيما يمكن أن يوصف مجازا بالديمقراطية – الطائفية .
وفي مأزقها الراهن لم تعد الطائفية – السياسية قادرة على مواجهة الوعي الوطني الديمقراطي الصاعد , بالتالي فهي مضطرة للاستناد لدعم خارجي ببناء نمط من أنماط التحالف مع ايران , وفي هذا التحالف تضمن الأذرعة الايرانية استمرار بقاء النظام بمقابل الاعتراف بالنفوذ الايراني والانضواء تحت ظله , لكن ذلك لايحل المشكلة بقدر مايضيف إليها عامل تفجر آخر يتمثل في الثورة على الإلحاق والتبعية , والتعبئة التي تغذيها الروح الوطنية التي لايمكن أن تقبل الإرتهان والتبعية لايران .
أما في حالة لبنان , فالمسالة تبدو أشد تعقيدا , حيث ترسخ النظام الطائفي عبر عشرات السنين , ومد جذوره في المجتمع والدولة , وأصبحت المؤسسات الطائفية المدنية والعسكرية في مركز أقوى من الدولة ذاتها , والفرد اللبناني لم يعد يقوى على العيش خارج أطر تلك المؤسسات , ورغم ذلك فقد شهدنا في السنوات الأخيرة حركات احتجاج شعبية غير مسبوقة , شارك فيها شباب من كل الطوائف , همهم الوحيد هو هدم النظام الطائفي وبناء وطن حر ديمقراطي للجميع .
لم تتمكن تلك الحركة الراديكالية الشعبية من تحقيق شيء من أهدافها المعلنة , لكنها تمكنت من وضع تلك الأهداف فوق الطاولة أمام المجتمع اللبناني , ومهما حاولت القوى الطائفية الرجعية فلن تتمكن من دفن تلك الأهداف , وستظل تحارب حربا تراجعية حتى تسقط مهما تطلب ذلك من وقت .
بدون شك فإن الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها لبنان في الوقت الراهن لايمكن الخروج منها دون دفع القوى الطائفية نحو الوراء وتقليم مخالبها تمهيدا لدفنها في مزابل التاريخ .
ليس للطائفية مستقبل , فقد اختبرتها الشعوب العربية عبر عشرات السنين ولم تجن منها سوى المرارة والبؤس والدماء , واليوم أصبحت في مرمى نضال شعوب المشرق العربي محصورة في الزاوية تبحث عمن يمدها بنسغ الحياة بأي ثمن , في انتظار أن ينفذ التاريخ فيها حكمه النهائي .


الكاتب هيئة التحرير

هيئة التحرير

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة