وفاءً لعمر قشاش في ذكرى يوم العمال العالمي

عمر قشاش، اسمٌ مرتبطٌ بالطبقة العاملة انتماءً ودفاعاً عنها. عندما أفرغت سلطة عصابة الإجرام النقابات من مضامينها، كان عمر قشاش نقابةً متنقلةً يدافع عن العمال والأُجراء في حدائق حلب وشوارعها وأروقة الشؤون الاجتماعية والعمل، وفي مسكنه المتواضع. كان الشيوعيون يفتخرون بأن عاملاً ونقابياً انتخبه المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري، الذي انعقد في حزيران من العام 1968، عضواً في اللجنة المركزية وفي مكتبها السياسي.
هذه الكلمات هي تقديرٌ وتكريمٌ لشخصه في يوم العمال العالمي، اليوم الذي كان يطل فيه على الطبقة العاملة التي أحبها، من خلال بيانه السنوي الذي استمر في إصداره حتى الرمق الأخير من حياته:
قلّما تجد عند المشتغلين بالحقل السياسي، وخاصة عند أهل اليسار منهم، احتراماً لشخصية عامة مثل احترامهم لشخصية الراحل عمر قشاش “أبو عبدو”. وقد برز ذلك من خلال ما كُتب عنه لحظة رحيله على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل شخصيات سياسية وكتّاب ومثقفين وتنظيمات حزبية ومن عامة الناس، خاصة أولئك الذين تعرفوا عليه عن قرب.
يعود ذلك للمسيرة المكافحة والنضالية التي طبعت سنوات عمره الطويلة. وُلد في البلاط الفوقاني، أحد أحياء حلب القديمة، ضمن أسرة كبيرة تعيش من عرق جبين رجالها. لم تتوفر للراحل سُبُل التعليم الرسمي، فتعلّم الحِرَف والقراءة لدى شيخ الكتّاب، بالتوازي مع عمله وهو في سن الثالثة عشرة في مطابع حلب، يتخللها العمل مع والده في مقالع الحجارة لفترة قصيرة، حيث كان يحصل على ست ليرات سورية في اليوم، متحملاً قسوة العمل بالنسبة لطفل في الخامسة عشرة من عمره. ليعود للعمل من جديد في مجال الطباعة، حيث الاحتكاك مع الكلمة وصناعتها وبداية تنامي وعيه الاجتماعي والسياسي والوطني. وكان قد بلغ العشرين من عمره عند استقلال سوريا، ليتنامى الصراع الاجتماعي فيها بعد ذلك، ليجد نفسه في صفوف الحزب الشيوعي السوري، حيث كان الحزب الرئيسي والأقدم في تبني قضايا الشغيلة في سوريا. وقد قاوم إغراءات قيادات أحزاب البرجوازية في استمالته إلى صفوفهم لما وجدوا فيه من سمات قيادية، ولم يعد عاملاً عادياً، بل انتقل تدريجياً إلى مواقع الدفاع عن مصالح العمال، ليصبح أبرز النقابيين، ليس في مدينة حلب، حيث لعب دوراً أساسياً في تأسيس الاتحاد المهني لعمال الطباعة فيها عام 1951، بل على صعيد عضويته في الاتحاد العام لنقابات العمال في سوريا، فكان من أشد الرافضين لمحاولات السلطة بتحويل النقابات إلى واجهات سياسية لها، وتخليها عن دورها في الدفاع عن مصالح الشغيلة.
اعتقاله في سنوات الوحدة، وصلابته أثناء تعرضه للتعذيب، ورفضه الانسحاب من الحزب، وانكبابه على تعلم اللغة الفرنسية وأصول اللغة العربية، إضافة إلى تفانيه في خدمة رفاقه المعتقلين، حيث تطوع طوال سنوات السجن في حمل برميل النفايات إلى السيارة الخاصة بذلك، أكسبه ذلك مكانةً خاصة بين كادرات الحزب اللصيقة به خلال فترة السجن. وهذا ما دفع الحزب لإرساله إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة العلوم السياسية والاجتماعية والفلسفية، وسرعان ما تم ضمه إلى اللجنة المركزية في العام 1965، ليتم انتخابه لعضويتها في المؤتمر الثالث 1969، وينال إجماع أصوات المندوبين، ويصبح عضواً في مكتبها السياسي هو وستة آخرون: خالد بكداش، يوسف فيصل، دانيال نعمة، إبراهيم بكري، ظهير عبد الصمد، ورياض الترك.
ومنذ تاريخ عضويته في اللجنة المركزية، ترأس وفود الحزب أو شارك في عضويتها إلى مؤتمرات الأحزاب الشيوعية والعمالية، وقابل شخصيات عالمية مثل هوشي منه.
يُعاد انتخابه لعضوية اللجنة المركزية ومكتبها السياسي في المؤتمر الرابع أواخر 1973، وهو أول مؤتمر بعد الانشقاق الذي قاده خالد بكداش، وبدأت تحولات الحزب التدريجية في ميادين الفكر والسياسة والتنظيم. ومن أهم هذه التحولات تبنيه للمسألة الديمقراطية والاستقلالية وتكريسها في المؤتمر الخامس للحزب أواخر 1978، حيث يُعاد انتخاب أبو عبدو إلى نفس المواقع القيادية، وهو في معتقله منذ حزيران 1978 حتى الإفراج عنه في شباط 1980. ولم يستمر خارج السجن طويلاً، حيث تم اعتقاله مع المئات من قيادات الحزب وكادراته في شهر تشرين الأول من نفس العام، ليستمر في السجن خمسة عشر عاماً حتى شهر تشرين الأول 1995. ويعود من جديد وقد بلغ السبعين من العمر، أكثر صلابةً وقناعةً في مواجهة الاستبداد، متحملاً مختلف أنواع الضغوط وقسوة العيش. وأصبح داعيةً نقابياً متنقلاً، يكتب عن فساد أجهزة الدولة المختلفة وتسلطها وسرقتها لحقوق الشغيلة في القطاع العام، ووقوفها إلى جانب أرباب العمل، وتحويل النقابات ومؤسسة التأمينات والشؤون الاجتماعية إلى ملحقات بها. وظل تحت الرقابات الأمنية اللصيقة به على الدوام، ليتم اعتقاله في الشهر الثاني من انطلاقة الثورة السورية، وهو يوزع بيانه المعهود بمناسبة الأول من أيار عيد العمال، وكان قد بلغ الخامسة والثمانين من العمر.
عمر قشاش نموذجٌ متميزٌ في قدرته على النضال في سبيل القيم الوطنية والاجتماعية العليا، ومؤمنٌ بقدرة الشعب على الخلاص من النظام الديكتاتوري الذي ثار عليه من أجل نيل حريته وكرامته. وأشد ما كان يقلقه هو مآل الثورة السورية، والحال الذي أصبح عليه السوريون من قتل وتشريد وسجن وتهديد لوحدة الأرض والمجتمع، وانحدار مستوى معيشة غالبية الناس.
عاش طوال حياته مترفعاً عن الصغائر، محباً للمحيطين به من رفاق وحلفاء وأصدقاء وجيران وأهل، يخلق الألفة والمودة بينهم. وقد تميز داخل الحزب بالتواضع واحترام هيئات الحزب، ومُفسحاً المجال أمام الكادرات الجديدة. وأكثر ما آلمه في السنوات الأخيرة هو حالة الوحدة التي عاشها في حلب، فآثر الانتقال مع زوجته وأميرته إلى سلمية، المدينة التي أحبته وأحسنت الاحتفاء به وبتاريخه، كما أحب هو أهلها بكل جوارحه.
أختم بما كان قد كتبه الراحل الكبير الدكتور عبدالله حنا عن أبو عبدو بعيد رحيله:
في سلمية، ذات الجذور التاريخية، وفي هذه الأيام الحزينة، يرقد جثمان إنسان ممن كانوا في عداد “من لا تاريخ رسمي لهم”، من صانعي “التاريخ من الأدنى”، من “المستضعفين في الأرض”، والحالمين بمستقبل زاهر للبشرية.