اللغة السياسية، وأزمات الدولة والسلطة العربية

img

النظرات التحليلية للاختلالات الهيكلية للدولة العربية ما بعد الاستقلال تشير إلى بعض من الخلط بين معنى الدولة، والنظام، والسلطة الحاكمة، وجهاز الدولة البيروقراطي الموروث من مراحل الاحتلال الغربي. هذا الخلط والتشوش ليس قاصراً على آباء الاستقلال وخلفائهم، ومن انقلبوا عليهم، وعلى ما بعدهم إلى المرحلة التاريخية الراهنة، وقد تتمدد مستقبلاً في عالم ستتغير مفاهيمه الموروثة من مرحلة القوميات والدولة الأمة والحداثة السياسية وما بعد بعدها. لا شك أن هذا الإدراك الجمعي اللاواعي بهذه المفاهيم المؤسسة – وقلة هي الواعية بذلك – لا يقتصر على الطبقة السياسية المسيطرة في الحكم – أيّاً كان تكوينها وأصولها الاجتماعية والمهنية والوظيفية – وإنما هو جزء من الوعي الجمعي، بقطع النظر عن اسم الدولة، ورمزياتها، والجغرافيا السياسية التي تحددت بعد اتفاقية سايكس بيكو 1916 – بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا، على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، وتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا، وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت مسيطرة عليها في الحرب العالمية الأولى – والدول العربية الأخرى التي كانت جزءاً من الجغرافيا السياسية للاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي.

كان الخطاب السياسي العربي ما بعد الاستقلال شغوفاً ومولعاً بتوظيف بنية اصطلاحية مستعارة من المتن الاصطلاحي واللغوي الأوروبي، مثل: الدولة، والقومية/الوطنية، والاستقلال، والسيادة، والسلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وفصل السلطات، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، والحريات العامة وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير، وحرية الاعتقاد مطلقة… إلخ، وذلك على نحو استثنائي، كجزء من الثقافة واللغة ومجازاتها السياسية ما بعد الكولونيالية. وازدادت وتكثفت استخدامات اللغة والمفاهيم/المصطلحات ومجازاتها مع حركات التحرر الوطني العالمثالثية أثناء الحرب الباردة.

كانت هذه الآلة الاصطلاحية ومعانيها جزءاً من منظومة اللغة والمجازات السياسية في غالب الدول العربية، وخطابات قادتها السياسيين. كان الهدف الرئيس هو إنتاج حالات من التماسك الداخلي، وبناء موحدات رمزية حول الدولة في تركيبات اجتماعية انقسامية، وإنتاج تعبئة سياسية واجتماعية حول زعاماتها، ومفهوم الدولة المستقلة.

كان الواقع الاجتماعي الموضوعي والانقسامي، والوعي الجمعي، مختلفاً، خاصة في ظل أبنية للقوة لم تكن سوى تعبيراً اجتماعياً وسياسياً عن الأصول الاجتماعية – العرقية، والقبلية، والعشائرية، والإثنية، والدينية، والمذهبية، والمناطقية، واللغوية – لقادة الاستقلال، ومراكز القوة التابعين حولهم. ومن ثم كانت أبنية القوة السياسية في غالب العالم العربي كاشفة عن انحيازاتها الاجتماعية لبعض مكوناتها الانقسامية، أيّاً كانت اللغة السياسية التي تشكل بنيات الخطابات السياسية. ومن ثم كان السمت البارز يتمثل في سطوة مفهوم الغلبة السلطوية، والسلطان المتغلب في فقه الجمهور السني! الغلبة السلطانية، أيّاً كانت مسمياتها: الجمهورية، أو الملكية، أو المشيخية، أو الأميرية. الوعي الجمعي السائد في غالبه من الجماعات المختلفة التي تشكل مكونات شعب الدولة يدرك أن الدولة هي من يسيطر على بناء القوة، بكافة مصادرها: العسكرية، والأمنية، والدينية، والبيروقراطية، والإعلامية.

من ثم حدث انفصال في غالب الوعي الجمعي بين معنى الدولة الرمزي المتعالي فوق مكوناتها، وسلطاتها الثلاث، والجغرافيا السياسية، وبين بناء القوة والسلطة المهيمنة، خاصة في ظل هشاشة مفهوم الهوية الجامع والموحد لجماعتها الانقسامية. ومن ثم تنامت وتشكلت هوياتها المتعددة، وثقافاتها الخاصة، بل وبناء تاريخها الشفاهي في ضوء الإقصاءات السياسية لها، وتهميش بعضها أو غالبها في بعض الحالات في بناء القوة، أو في الوظائف العامة، أو في سياسات التنمية – أيّاً كانت طبيعتها وتوجهاتها – وذلك في ظل نظم استبدادية أو تسلطية لا تعتمد في بناء نظام شرعيتها السياسية على السند الديمقراطي التمثيلي، وإنما على عديد المصادر الدينية والمذهبية، وخطاب الاستقلال، والسيادة، والتنمية، والتحرر الوطني، ومحاربة الاستعمار، ومواجهة إسرائيل، لاسيما من دول الدائرة البؤرية والطوق في المشرق العربي، أيّاً كانت مصداقية هذه المجازات السياسية الشعاراتية.

من هنا كانت مفاهيم الأمة وإرادتها العامة، والشعب الواحد، والشعب هو المعلم، محض مجازات سياسية فارغة من مضامينها ودلالاتها في المعجم السياسي الغربي – الأوروبي أساساً – والدولة/الأمة، والنظم الليبرالية ونماذجها المتعددة. لا يختلف الأمر كثيراً في ظل استعارات بعض القادة لبعض من الاصطلاحات والمفاهيم من دول وإيديولوجيات وخطابات الإمبراطورية الماركسية، وتناصات بعضها في الخطابات السياسية العربية آنذاك، مجتزأة وخارج سياقاتها الفلسفية والإيديولوجية والسياسية.

كان الخطاب السياسي العربي – الشفاهي والمكتوب – ينطوي على استعارات من المتون الغربية، والماركسية، والقومية العربية، كجزء من أنساق لغوية سياسية معبرة عن الفراغ، وموت السياسة، وكأقنعة للتعبئة والحشد الجماهيري، من بعض الدول ضد بعضها بعضاً، أو ضد الكولونيالية الغربية، ثم الإمبريالية الأمريكية لدى بعض قادة ما بعد الاستقلال.

كان الخطاب السياسي الموجه إلى الشعب، أو الأمة كاصطلاحين مجازيين – أو للغالبية الشعبية، وتمييزها خطابياً عن الطبقات المستغلة – يركز على المساواة، والكفاءة، والعمل، وتوفير الاحتياجات الأساسية للجماهير العاملة، وهو شكل مركز الخطاب السياسي التعبوي، مع الإشارة إلى الصعوبات الخارجية التي تواجه التنمية، ونقص الموارد الطبيعية والبشرية!.

كان هذا الخطاب السياسي، وفي غالبه بنية من التمجيد للأمة/الشعب/القوى الشعبية العاملة في نزعة شعبوية غالبة، وجد بعضاً من القبول والتعبئة والتأثير، في مواجهة الاستعمار، والإمبريالية، وإزاء النزاعات البينية مع دول مجاورة، أو بعض دول الجوار الجغرافي العربي.

كان التركيز أساساً على بناء القوة العصبوية المرتكزة على بعض المكون الأغلبي في التركيب الاجتماعي لمكونات كل دولة وجماعاتها العرقية، والقبلية، والعشائرية، والعائلية، والدينية، والمذهبية، مع بعض التحالفات مع بعض رموز جماعات أخرى، وما ترتب على ذلك من هيمنة وإقصاءات، وسياسة الانحيازات لأصول وانتماءات قادة السلطة الحاكمة، ومراكز القوة داخلها الذين حملوا في أعطافهم وانحيازاتهم بعضاً من هذه الانتماءات إلى جماعاتهم الأم، وهو ما كرس بعض الانقسامات الأساسية، وعمق الفجوات فيما بين بعضها بعضاً، لدى غالبهم.

لا شك أن إعادة إنتاج الولاءات والانتماءات العرقية والقبلية والعائلية والدينية والمذهبية في بناء القوة السياسية، وسلطات وأجهزة الدولة البيروقراطية، رمى إلى بناء قواعد دعم ومساندة وتأييد من هذه الجماعات – أيّاً كانت جذورها وتاريخها وهوياتها – في ظل هيمنة الحزب القائد – على نحو ما ساد في ظل حزب البعث في سوريا والعراق – أو التنظيم السياسي الواحد، أيّاً كانت تركيبه الاجتماعي وشكله السياسي، وتفاقم أزمة الشرعية السياسية للنظام، واعتماده على عنف النظام – البوليسي والاستخباراتي والعسكري، وجهاز الدولة الإيديولوجي – لتحقيق الهيمنة على مكونات المجتمع الانقسامي بالقوتين المادية والرمزية من خلال إيديولوجيا النظام – في ظل حكم البعث السوري والعراقي – من خلال مفاهيم القومية والوحدة العربية، وذلك كغطاءات إيديولوجية تخفي انحيازات زعماء كلا البلدين إلى بعض من انتماءاتهم لبعض المكونات الدينية والمذهبية والمناطقية، وأيضاً لحشد بعض الأقليات الدينية والقومية في مواجهة بعض الجماعات المذهبية الأخرى – الشيعة والأكراد في العراق، والسنة في سوريا، والقبائل الأفريقية في شمال دارفور وجنوب السودان – مع تجنيد بعض الشخصيات التي تنتمي إلى بعض هذه الجماعات داخل البناء القيادي للحزب الحاكم، أو بناء القوة السياسية حول القيادة المتغلبة والمسيطرة.

في بعض البلدان الأخرى، كان الاعتماد على تنمية بعض المناطق على حساب أخرى، ومثالها الساحل والعاصمة في تونس، وإهمال الوسط والجنوب التونسي في ظل هيمنة الحزب الدستوري، والتمركز حول القيادة التاريخية للحبيب بورقيبة، وإيديولوجيته الوطنية العلمانية، وإصلاحاته لمدونة الأحوال الشخصية، ودعم حقوق المرأة، ونظام الزواج والأسرة، وتطوير التعليم، ونزعة تسلطية سياسية مهيمنة على النظام والمجتمع التونسي، وهي سياسة استمرت نسبياً مع تسلطية زين العابدين بن علي.

في السودان ما بعد الاستقلال، ظل النظام أسيراً لمؤسسة السيدين – الميرغنية والمهدية – وقبائل الوسط النيلي العربية الكبرى والصغرى وفروعها المتعددة، مع بعض العناصر الأخرى من الجغرافيا القبلية المتعددة في السودان، وتهميش المكونات القبلية والعرقية الأفريقية في جنوب السودان ودارفور. كانت تركيبة القوة تعتمد على المصدر القبلي والعربي في مواجهة مع الأعراق الأفريقية، والنزاعات المسلحة معها، في ظل ثنائية الحكم المدني/العسكري المستمرة منذ الاستقلال حتى انفصال جنوب السودان، والانتفاضة الشعبية ضد الحكم الإسلامي لحزب المؤتمر الوطني، ثم نشوب الحرب الأهلية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بقيادة حمديتي. تفاوتت الأقنعة الإيديولوجية المتصارعة منذ الاستقلال، ودارت حول مفاهيم السيادة، والاستقلال الوطني، والأمة السودانية، والعروبة والإسلام، وكانت تعكس أوضاع الإقليم السياسية والإيديولوجية من التعددية الحزبية – أحزاب ليبرالية/عرقية، وقومية عربية ناصرية وبعثية وشيوعية… إلخ – ومن نظام عسكري انقلابي إلى حكم مدني ديمقراطي نسبياً، ومن جعفر نميري وتحوله إلى حكم إسلامي، ثم انقلاب عسكري بالشراكة مع حسن الترابي، ثم انقلاب عمر أحمد البشير وبعض عناصر قيادية من حزب الترابي، إلى انتفاضة شعبية، ثم الحرب الأهلية المستمرة إلى هذه اللحظة.

كانت الصراعات الإيديولوجية وخطاباتها السياسية في الحكم والمعارضة السودانية، ومعها مجازاتها السياسية، مفارقة للواقع الموضوعي المتعدد والمتصارع في السودان، والمنافي للغة السياسية المستخدمة ومجازاتها المفرطة.

من هنا لم تتشكل مفاهيم الأمة/الوطنية، والهويات القومية، والمواطنة، والمساواة، ودولة القانون في إطار التكوينات الاجتماعية الانقسامية، وسياسات التهميش والإقصاء في غالب البلدان العربية – باستثناء مصر والمغرب وتونس نسبياً – وذلك لفشل سياسات الاندماج الوطني، وهشاشة الموحدات الوطنية الجامعة بين المجموعات الأساسية لغالب هذه المجتمعات الانقسامية. من ثم كانت الغلبة لسياسة القوة في فرض سلطة الحكم الفردي في كل بلد، وتفاقمت أزمات الشرعية السياسية، والاضطرابات، والنزاعات المسلحة، حتى الوصول إلى الانتفاضات الشعبية الواسعة وما أطلق عليه مجازياً “ثورات الربيع العربي”، وفشل مراحل الانتقال السياسي في هذه البلدان، ثم نشوب الحروب الأهلية في العراق وسوريا ولبنان والسودان واليمن وليبيا.

لم تقتصر اللغة السياسية ومجازاتها على المفاهيم الدولتية والقومية، وإنما على المفاهيم الدستورية والقانونية والسياسية من مثل سيادة القانون، الذي كان يمثل مصالح السلطة المتغلبة أساساً – السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية – وهيمنة الأداتية القانونية في السيطرة، وتزايدت وتفاقمت النزعة الجنائية والعقابية في محاولة للردع العام والخاص، في مساحات وتفاصيل واسعة، مع إغفال الضمانات الموضوعية والإجرائية للمتهمين، وخاصة في ظل القيود على السلطات القضائية وعدم استقلالها. ومن ثم بات القانون في الوعي الجمعي تعبيراً عن السلطة الحاكمة، لا عن مصالح الدولة والمواطنين وغالبيتهم الشعبية.

ثمة تكرارات في الخطابات السياسية الاستبدادية والتسلطية عن مبدأ فصل السلطات، بينما الواقع الموضوعي يكشف عن عدم استقلال السلطة التشريعية الموالية للسلطة التنفيذية والحاكم الفرد وأعوانه، وعدم استقلال القضائية.

الحديث عن حريات التعبير والتدين والاعتقاد، بينما الواقع القانوني يناهض ذلك من خلال تنظيم الحريات وتقييدها وتصفيتها في الممارسة… إلخ. من ثم كانت الخطابات واللغة التي تشكلها ومجازاتها تدور في الفراغ، وتعبر عن موت السياسة، وفقدت قوتها وتأثيرها على الوعي الاجتماعي الجمعي.

فشلت اللغة والمجازات السياسية على تعدد مصادرها الإيديولوجية والفلسفية في ظل غياب مؤسسات تمثيلية ديمقراطية وتعددية، تؤسس للتكامل الداخلي بين المكونات الانقسامية، وبناء هويات وطنية جامعة لتقصي مكوناتها وجماعاتها وهوياتها الخاصة. ومع سلطات الغلبة، غابت دولة القانون والحق والعدالة، وماتت السياسة، في ظل صحوة مستمرة للقوة الرعناء للسلطة الحاكمة المتغلبة، وسادت معها لغة ومجازات سياسية شعبوية متغيرة وفارغة، تحملها خطابات سياسية منفصلة عن واقع موضوعي متغير.

المصدر: الأهرام


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة