التحريض الطائفي: جريمة تمزّق المجتمعات وخارطة طريق لسوريا

img

في عالم يموج بالتحولات والانقسامات، يبدو أن أحد أخطر التحديات التي تواجه مجتمعاتنا هو التحريض الطائفي، الذي بات – في حالات كثيرة – يشكل شرارة للحرب، ومسوّغاً للعنف، وأداة لتفكيك الأوطان من الداخل. سوريا مثال صارخ على ذلك، حيث لم تكن الحرب مجرد نزاع سياسي، بل تحوّلت سريعاً إلى صراع هويات، غذّاه خطاب طائفي موجّه، سعى إلى تبرير العنف وتوسيع الاستقطاب.

لقد أثبت التاريخ أن التحريض الطائفي ليس مجرد انحراف في الخطاب، بل سلوك ممنهج قد يفضي إلى الجرائم الكبرى، كما حدث في رواندا والعراق. والمؤلم أن هذا النمط بات مألوفاً في منطقتنا، ومسوّغاً – في بعض الأحيان – تحت عناوين “حماية الدين” أو “مواجهة البدع والانحرافات”، أو حتى باسم “التمكين للعقيدة الصحيحة”، وهي مفردات كثيراً ما يرددها التيار السلفي الأحادي، الذي يتبنى قراءة متشددة للمجتمع والدولة، ويضيق ذرعاً بالتعدد والتنوع.

في سوريا، ورغم توقف معظم العمليات العسكرية الكبرى، لا تزال الأرضية الفكرية التي غذّت النزاع قائمة، بل وقد ترسخت في بعض مؤسسات الإدارة الحالية، سواء من خلال هيمنة خطابات سلفية جامدة في التعليم والإعلام، أو من خلال تهميش المكونات الأخرى، وفرض أنماط فكرية لا تقبل الاختلاف.

لكن التحريض الطائفي في سوريا لم يبدأ مع السلفية السياسية فقط، بل كانت جذوره متغلغلة في نظام الحكم ذاته، منذ عقود، حين عمدت سلطة الأسد إلى إعادة تشكيل مؤسسات الدولة والأمن والجيش على أسس ولاء مذهبي، وإنكار متعمّد للهوية الدينية والتمثيل العادل. ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، تصاعد هذا التحيز بشكل فجّ، حيث تحوّل النظام إلى حليف معلن لقوى شيعية متطرفة مدعومة من إيران، فتدفقت الميليشيات العابرة للحدود – كحزب الله والحرس الثوري – تحت شعارات طائفية معلنة، وارتكبت جرائم موثقة بحق مدنيين سوريين، فقط لأنهم ي…

وقد وُظّفت هذه الهيمنة الشيعية المتطرفة – سياسياً وإعلامياً – لترسيخ رواية النظام عن “محور المقاومة”، بينما كان الواقع يُظهر استباحة مدن وبلدات بكاملها، وعمليات تهجير منظمة من مناطق ذات غالبية سنّية، في موازاة عمليات “تشييع اجتماعي” و”هندسة ديمغرافية” ما زالت قائمة حتى اليوم في محيط دمشق، وحمص، ودير الزور.

هذا السلوك أوجد شعوراً واسعاً بالظلم والاضطهاد الطائفي، وصنع ما يمكن وصفه بـ “المظلومية السنّية”، التي تحوّلت لاحقاً إلى أرضية خصبة لخطابات انتقامية وسرديات متطرفة، تبنّاها جزء من المعارضة المسلحة، وردّت من خلالها على العنف بعنف مضاد، فتحوّلت البلاد إلى ساحة تصفية طائفية مزدوجة.

ما حدث – ويحدث – ليس صراع أديان، بل نتيجة مباشرة لاستثمار سياسي خبيث في الطائفية من قبل النظام وحلفائه، أعقبه رد فعل غير عقلاني من بعض التيارات السنية المتشددة. وما لم يُعترف بهذه الحلقة الجهنمية، ويُكسر منطق “المظلومية مقابل السيطرة”، فلن يكون هناك بناء مشترك ولا مصالحة حقيقية.

ولهذا، فإن أي حديث عن مصالحة وطنية أو إعادة بناء اجتماعي لا يمكن أن ينجح دون معالجة جذرية لهذا الانغلاق الفكري والطائفي، ضمن رؤية واقعية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة السلطة القائمة، وتركيبة المجتمع السوري المتشعبة.

خارطة طريق واقعية للخروج من المأزق الطائفي في سوريا:

1. تفكيك البنية الفكرية للتحريض من الداخل:

العمل من داخل المنظومة، عبر حوارات مقنّنة مع التيارات السلفية غير العنيفة، ودفعها نحو قبول فكرة “الاختلاف السلمي”، والانفتاح على مفاهيم مثل “الدولة الجامعة” و”المواطنة المشتركة”.

2. إعادة بناء الخطاب الديني بمقاربة وطنية لا مذهبية:

تأسيس هيئة وطنية مستقلة تُشرف على الخطاب الديني، وإعادة تأهيل الأئمة والخطباء بخطاب جامع، مع ربط الترخيص الديني باحترام المعايير الوطنية.

3. إصلاح التعليم وإعادة كتابة المناهج:

مراجعة شاملة للمناهج، إدخال مفاهيم المواطنة والتنوع، تدريب الكوادر التربوية، تحصين المدارس من التجييش العقائدي، وتوحيد المنهج التعليمي بما يراعي التعدد السوري.

4. التأسيس لمسار عدالة انتقالية شاملة:

يشمل الاعتراف بالأذى الطائفي، تعويض الضحايا، تقديم اعتذارات رسمية، وتوثيق جميع الانتهاكات بخطاب غير انتقائي.

5. سنّ تشريعات تجرّم التحريض الطائفي:

قانون واضح يجرّم التحريض الطائفي، وإحداث هيئة رقابية مستقلة لضبط الخطاب الإعلامي والديني والسياسي.

6. إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة والمواطنة:

إلغاء منطق الغلبة أو المحاصصة، وضمان تمثيل جميع السوريين وفقاً لمبدأ المواطنة لا الانتماء الطائفي.

7. رعاية إعلام مستقل لا يُعيد إنتاج الانقسام:

إنشاء إعلام وطني بديل يعكس الرواية المشتركة للسوريين، ويتجاوز خطاب التخوين والتشظي.

التحريض الطائفي لا يموت بالهدنة، ولا يزول بسكوت المدافع. إنه مرضٌ يتغلغل في الأفكار والمؤسسات، ولا يُشفى منه إلا عبر مشروع وطني شامل يعترف بالمشكلة، ويعالجها من الجذور.

في سوريا اليوم، لا نحتاج إلى إعادة إعمار الحجر فقط، بل إلى إعادة ترميم الضمير الجمعي، وبناء عقد اجتماعي جديد يكرّس أن السوريين ليسوا طوائف تتعايش، بل مواطنون متساوون يعيشون في وطن واحد.


الكاتب عماد الحصري

عماد الحصري

كاتب وناشط سياسي سوري

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة