القانون الغربي، والدين: التوترات والالتباسات

img

شكلت الأديان تاريخياً مع الأعراف والتقاليد أحد أبرز مكونات الثقافات القانونية في مختلف المجتمعات، وخاصة في تكوين نظام الأسرة، ومن ثم بعض معالم الهندسات الاجتماعية، ثم مع القانون الروماني بدأت تغيرات فىيالفلسفة القانونية، التي أثرت على مقاربة القانون والتنظيم الاجتماعي.

مع تطور الحضارة المسيحية- اليهودية، ثم التحول إلى الرأسمالية الأوروبية، وحركة القوميات، وتأسيس الدولة الأمة، اتخذت النظم القانونية الحديثة مسارات مختلفة في الفلسفة القانونية -اللاتينية، والإنجلو ساكسونية والجرمانية – وتم التمايز بين القانون الحديث وفلسفته، وما بين الأديان، على نحو أدى إلى تطور النظم القانونية، والسياسية الليبرالية، ومن ثم التمايز بين الوضعي، وما بين الميتاوضعي، وبات القانون إنتاج تشريعي وضعي بامتياز للسلطات التشريعية الأورو-أمريكية، وتعبيراً عن الصراعات السياسية حول المصالح الاقتصادية والاجتماعية المتعارضة، وتوازنات القوة في الواقع الاجتماعي والسياسي. هذا التطور الكبير في الفلسفات القانونية، وتأثرها بالحداثة الغربية، والثورات التكنولوجية، على نحو ساهم في تعقيد، التنظيمات القانونية، ووظائفها الاجتماعية والسياسية، وفى الفن القانوني – التكنيك والصياغة – وفي التفسير والتأويل للنصوص القانونية من قبل الجماعات القانونية ودراسات علماء الاجتماع وخاصة علم الاجتماع القانوني، ولاسيما الجماعات القضائية.

هذا المسار التاريخي المركب في تطور النظم القانونية الحديثة، والمعاصرة، ارتبط بمسألة تنظيم المصالح المتصارعة، وأيضاً بالحريات العامة، والشخصية وإقرارها وتنظيمها وضماناتها. لا شك أن النظم الليبرالية التمثيلية المعاصرة، كرست وطورت من مفهوم الحريات العامة، والشخصية إلى آفاق واسعة.

ظل القانون الديني، قاصراً على المؤسسات الدينية المسيحية – الكاثوليكية، والبروتستانتية والأرثوذكسية، واليهودية – في مجال نظام الأسرة، واللاهوت، والطقوس الدينية، لكن ظل في النظم القانونية الوضعية بالغ الهامشية، وحسب النظام الدستوري، والقانوني في الثقافات القانونية الأورو – أمريكية.

هذا التطور شكل أهم مصادر النظم القانونية الحديثة في المستعمرات الفرنسية، والإيطالية، والبريطانية سواء تحت الحكم الكولونيالي، وما بعد الاستقلال، لكن الدين – الإسلامى والمسيحي واليهودي – في العالم العربي، وتأسيس الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، ظل أحد المصادر الهامة في نظام الأحوال الشخصية، ومصدراً من مصادر الاستلهام، والاستعارات القانونية من بعض المبادئ العامة للنظام القانوني للشريعة الإسلامية، وظل أحد مصادر التوترات والنزاعات السياسية بالدين وعليه، في الحياة السياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وإلى اللحظة التاريخية الراهنة مصرياً.

كانت علاقة الدين بالقانون جزء من الدرس التاريخي للقانون، ولم يكن هناك تشكلُ لما بات يطلق عليه القانون الديني في التقاليد الأكاديمية الإنجلو ساكسونية، والأمريكية إلا أن هذه المقاربات الأكاديمية أخذت في التبلور والتشكل كنتاج للتغيرات داخل المجتمعات الغربية للأسباب التالية.

1- موجات الهجرات الدولية من مجتمعات جنوب العالم إلى المجتمعات الأوروبية، وأمريكا الشمالية، سعيا وراء الرزق، أو هروبا من الاستبداد السياسي والتسلطية. ارتباط غالبُ موجات الهجرة الشرعية، والقسرية، وأجيالها بأديانهم ومعتقداتهم الدينية رغم تجنس غالبهم بجنسيات الدول التي هاجروا إيها، وظهور مشكلات عدم الاندماج الاجتماعي داخل المجتمعات الغربية العلمانية، وتعبيراً عن أزمات الهوية للأجيال الجديدة من مواطني هذه الدول من الأصول العربية والإسلامية.

2- التمدد السلفي والوهابي، والإخواني داخل غالبُ المجتمعات الأورو- أمريكية الشمالية، وخاصة سكان الضواحي في فرنسا، وبلجيكا.. الخ، واستمرارية بعض  التقاليد الاجتماعية المضادة لحقوق المرأة المحمولة معهم وإزاء غير المسلمين، وما يترتب عليه من مشكلات اجتماعية.

3- تمسك الأقليات الإسلامية والعربية ببعض التقاليد الخاصة بنظام الزي، والعلامات الدينية في المجال العام كالجلباب والحجاب والنقاب، وملابس البحر لبعض النساء المسلمات والعربيات، أو في الوظائف العامة، والمدرسة الجمهورية في فرنسا على سبيل المثال.

4- بروز ظواهر العنف الديني والإرهابي مع أحداث 11 سبتمبر 2001، وغيرها من عمليات الطعن، والدهس، وقتل بعض رجال الدين والمدرسين في فرنسا لأسباب دينية وسياسية محضة.

5- مطالبة بعض رجال الدين المتشددين وأتباعهم بالسماح بتطبيق الشريعة الإسلامية عليهم في المهاجر الغربية! على نحو يتناقض مع القوانين الوضعية الغربية العلمانية! وإقرارها بالحريات العامة والشخصية على نحو واسع المدى في ظل سيادة القانون.

6- تصاعد المخاوف الأوروبية من الهجرة الطوعية أو القسرية غير الشرعية من جنوب المتوسط إلى شماله، وما تحمله من تناقضات وممارسات تختلف عن الثقافات وأنماط الحياة الأوروبية، على نحو ما ظهر مؤخراً من هجرة السوريين بعد الحرب الأهلية، والعراقيين وغيرهم.

7- تزايد الاتجاهات اليمينية المتطرفة، والشعبوية السياسية، وكراهية الأجانب في بعض الأحزاب، والأوساط الاجتماعية الأوروبية، في ظل بعض المشكلات الاقتصادية في بعض البلدان الأوروبية كفرنسا.

طرحت مشكلات الهجرة، وعدم الاندماج الاجتماعي لأسباب دينية وعقائدية، وثقافية عديد الأسئلة حول المدى الذي يمكن للقانون في الدول الأوروبية أن يتوافق مع الاختلاف الديني بين مواطني الدولة من الأصول العربية والإسلامية، وغيرها؟! وانعكاسات ذلك على التقاليد الراسخة في الدساتير والقوانين الأوروبية في مجال الحريات العامة والشخصية، وخاصة المثلية الجنسية، ونظام الزواج المثلى، والدعوات لعدم تحديد الهوية الجنسية للأطفال، والصبية منذ الميلاد، وترك حرية اختيار النوع الجنسي لمرحلة الرشد المدني؟! ،وهو ما يخالف الشريعة الإسلامية، وبعض المواطنين من ذوى الانتماءات والعقائد الدينية الأخرى؟!

8- ما مدى التوافق بين قانون الدولة والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان؛ وخاصة الحريات الدينية، ومطالبات بعض المواطنين بالمطالبة بدمج قانونهم الديني في الأحوال الشخصية، أو رفضهم للمثلية الجنسية، وحرية تحديد النوع الجنسي لأبنائهم بعد الوصول إلى سن الرشد المدني؟

لا شك أن هذه الأسئلة والمشكلات باتت جزءا من اهتمامات علماء القانون وسوسيولوجيا القانون في بعض البلدان الأوروبية، وخاصة في ظل ازدياد معدلات التوترات الاجتماعية والثقافية، وخاصة مع بعض أنماط العنف الديني والاجتماعي والسياسي في ظل تنامى التوجهات اليمينية، والمتطرفة المحمولة على الشعبوية، وبعض بقايا النزاعات القومية الأوروبية!

لا شك أن هذه المشكلات حول علاقة القانون الغربي العلماني، في النظم الليبرالية التمثيلية، تشكل واحدة من مشكلات ما أطلق عليه ما بعد العلمانية في أوروبا، وأمريكا الشمالية، وستزداد تعقيدا، في ظل التقلصات المصاحبة لمرحلة الإناسة الروبوتية، وتحديات الانتقال الصعبة مع الذكاء الاصطناعي، ومرحلة ما بعد الإنسان التي تلوح بعض آفاقها في عالمنا المتحول، والمضطرب.

المصدر: الأهرام


الكاتب هيئة التحرير

هيئة التحرير

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة