العقلانية في الفكر السياسي والممارسة عند جمال الأتاسي

img

تميزت الحياة السياسية للدكتور جمال الأتاسي بالاستمرارية والفعالية السياسية والتناغم بين الفكر والممارسة والاستعداد للتجدد وقبول النقد الذاتي، لكن هذا المقال سيحاول التعرض بصورة خاصة للعقلانية في الفكر السياسي والممارسة عند جمال الأتاسي.

يصف ياسين الحافظ السياسة العربية بعد عبد الناصر بكونها تراجعت لتكون “مبنية على الشعور، على الرغبة، على المعتقد، وبالتالي على اللاعقلانية.”

” إننا هنا نحاجج انتصاراً لأساس عقلاني للسياسة العربية.. وما كنا بحاجة لهذه المحاججة لو أن العقل العربي كان قادراً على تحقيق تراكم ما في تجربته السياسية، لذا نبدو، وهذا واضح في سائر الصعد، وكأننا نبدأ على الدوام من جديد، التأخر العربي العام (لا بد أنه يقصد تأخر الفكر العربي) جعل العقل العربي وكأنه برميل بلا قعر، لا يجمع ولا يراكم، مع كل صباح نبدأ تجربة جديدة، وننسى تجربة البارحة، كما لا نفكر باحتمالات الغد، على الدوام نبدأ من جديد وكأنا ولدنا اليوم، أشبه بفئران عاجزة عن اكتشاف أن المصيدة تصيد” – ياسين الحافظ.

مثل ذلك الوعي بضرورة عقلنة السياسة العربية كان قاسماً مشتركاً بين ياسين الحافظ وجمال الأتاسي والياس مرقص وعبد الكريم زهور عدي، لكن جمال الأتاسي تميز بالتناغم بين الفكر والممارسة بصورة متسقة ومستمرة وحتى وفاته عام 2000م.

ومن بين القامات الفكرية- السياسية الأربعة تميز جمال الأتاسي بما يمكن وصفه بـ”السياسة الجماهيرية” دون أن يقع بالشعبوية، فهو المثقف العميق الثقافة لكنه أيضاً القائد السياسي الذي يعرف كيف يُصغي للجمهور ويتفاعل معه، وكيف يحلل في الوقت ذاته الأوضاع السياسية الداخلية لسورية بارتباطاتها العربية والدولية، ومن هذا وذاك يصل للموقف السياسي في كل مرحلة ومنعطف وكل حدث يتطلب اتخاذ مثل ذلك الموقف.

جمال الأتاسي لعب دوراً مركزياً في التجمع الوطني الديمقراطي في أواخر السبعينات من خلال حزبٍ له جذوره الشعبية في سورية هو حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وهكذا امتلكت المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية قيادة سياسية وقفت في وجه محاولات السلطة تحريم السياسة في سورية وحصر ممارستها بحزب البعث ومَسخ فكرة الجبهة الوطنية بأحزاب لا وزن لها في حقيقة الأمر.

تبدو العقلانية السياسية لجمال الأتاسي في نقده الذاتي للتجربة الناصرية، كتبَ جمال الأتاسي في “إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي” متحدثا عن مرحلة ما بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 :

” لقد ظل عبدالناصر هو نفسه من حيث توجهه العام الفكري والسياسي، الوطني والقومي والاشتراكي، ومن حيث مبادئه ومنطلقاته، ولكنه انتقل نقلة نوعية إلى طور جديد، وأضاف وأصبح شيئاً جديداً وتسلح بخبرات جديدة. لقد ظل الثورة، ولكنه أصبح عقلنة الثورة وعقلانيتها التي تضع كل شيء على محك الواقع الملموس وعلى محك الجدوى”.

في مكان آخر من الكتاب تبدو الروح النقدية أكثر وضوحاً عند جمال الأتاسي فهو ليس ناصريا تسوقه العاطفة والحماسة لكنه مع انتمائه للخط السياسي لعبد الناصر قادر اتخاذ موقف نقدي منه:

” لعل الخطأ الكبير الذي وقع به نظام عبدالناصر والأدوات التنفيذية لسلطته الثورية، كما وقعت به ثورات ونظم ثورية أخرى، هو أنها لم تساعد على تفتيح هذا الوعي النقدي، أي تقدم الوعي الثوري عن طريق النقد المتواصل للتجربة الثورية في مساراتها كلها، ولم تعمل على خلق أدوات مثل هذا الوعي الجماعي، الذي يصنع حيوية الثورة وتجددها المستمر، فضلاً عن أنها في عدد من مراحل هذه الثورة، عملت ضد تفتح هذا الوعي النقدي وأدواته”.

ومن العام إلى الخاص: “.. ذلك أن هذه القصورات كانت مرتبطة بقصورات الجانب الديمقراطي في التجربة.

وهذه مسألة أساسية تستحق أن نقف عندها، لأن الإجابة عليها هي التي تضعنا على طريق تكملة ذلك” المشوار” الذي انقطع  .”

بوفاة جمال الأتاسي خسرت سورية قائدًا سياسيًا ومفكرًا جمع بين الثقافة العميقة والعقلانية السياسية والإحساس المرهف بنبض الجماهير وأهمية الاصطفاف مع تلك الجماهير وعدم الانغلاق والابتعاد عنها وذلك ما عانت منه النخب السياسية السورية في الأحداث المصيرية اللاحقة.

المصدر: الحرية أولاً


الكاتب معقل زهور عدي

معقل زهور عدي

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة