ما جدوى الكتابة السياسية بدون فعل؟
تتسارع الأحداث ليس اليوم فقط، بل على مر العقود. يستخدم البعض عبارة “في ظل الظروف العالمية المصيرية الراهنة…” وآخرون “في ظل التحديات الاستثنائية…” وغيرها من العبارات التي توحي للقارئ بأنها جديدة وطارئة وغير عادية.
بلا شك هناك خطط دولية جيوسياسية واستراتيجية ترسم معالم الجغرافيا والحدود والنفوذ والهيمنة الاقتصادية والعسكرية، وتوجهات لتحولات ثقافية عميقة في حياة الشعوب، أغلبها غير معلن، ولكننا نرى نتائجها على مراحل. أحدهم يسميها مؤامرة (التعبير نسبي والمهم من يقوله)، وآخر يسميها خطط أو أجندات استراتيجية. ولكن الأهم ليس المصطلح بقدر ما هي النتائج على الأرض.
أحياناً يضيع الإنسان بين زحمة الأحداث وتنوعها في الجغرافيا والسياسة ويفوت عليه ربط تلك الأحداث للوصول إلى رسم خارطة جيوسياسية وحضارية شاملة لما يجري.
وقد يفسر بعضهم أن ما يجري من مواقف متناقضة في الساحة الدولية أو من ازدواجية معايير، هو سياسة، ولكنها سياسة قذرة وغير محترمة ويبدو أنها السائدة رسمياً في العالم.
كيف نفسر تباكي الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين على قضية الشعب الأوكراني وحقه في السيادة والاستقلال وهي قضية مشروعة، وبين موقف تلك الدول الداعمة للكيان الصهيوني، وهو يبيد الشعب الفلسطيني.
إذا تعمقنا نجد أن الموضوع ليس مرتبطاً بمواقف هذه الدول من حق الشعوب وعدالة قضيتهم، بل بأجندات فكرية وسياسية تعكس مصالح دولية وتعبر عن صراعات حضارية، علما أن قضية الشعب الفلسطيني واضحة وضوح الشمس فهي قضية شعب سرق وطنه في وضح النهار وطرد من أرضه ومورست ضده الإبادة الجماعية على مدى قرن تقريباً، وما تزال دول كبرى تتشدق بحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، وتستمر بدعم هذا الكيان الصهيوني المغتصب العدواني.
وإذا نظرنا إلى القضية السورية فكيف يمكن أن نصمت على مقتل حوالي مليون سوري وتهجير 14 مليون وتدمير أكثر من مليون منزل وننسى ما فعله المجرم بشار الأسد – ملك الكبتاغون والكيماوي – ويأتي العرب ويصافحونه، لدرجة أنهم على وشك أن يوجهوا له الشكر على قبوله التعامل معهم. لماذا هذا العهر والعار؟.
ويقولون إنها السياسة، أو الواقعية السياسية، ومعناها العملي برأي هو التخلي عن الأخلاق والكرامة والقيم الإنسانية بحجة المصالح.
يمكن أن نتفهم دفاع الدول عن مصالحها الوطنية، ولكن لا يمكن أن تكون مصلحة دولة أو حتى فرد مبنية على انتهاك حقوق ومصالح الآخرين. فمقولة الدفاع عن النفس أصبحت حجة شكلية للعدو الصهيوني لإبادة شعب بكامله. وبحجة وجود نظام شرعي شكلياً مثل نظام الأسد يصمت العالم عن إبادة الشعب السوري وقتله بالسلاح الفتاك والجوع والمرض والتشريد، مع تجاهل كامل لحقوق الشعوب التي رسمتها المواثيق الدولية.
فبعض الدول تتمسك بحرفية القوانين الدولية عندما تخدم مصالحها وتحارب القيام بنفس الخطوات إذا أتت من جهة أخرى.
روسيا استخدمت حق النقض الفيتو أكثر من 14 مرة دفاعاً عن نظام الأسد الفاسد المجرم، وأمريكا استخدمت الفيتو عشرا ت المرات دفاعاً عن الكيان الصهيوني المجرم. أي أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن إما يتفقان ضد مصلحة الشعوب لحماية مصالح أعضائهما أو يتناحران فيما بينهما ويعطلان أي مشروع قد يخفف من أثار الكوارث في العالم. والمشاريع الدولية لوقف إطلاق النار في غزة خير مثال. فأمريكا ترفض وقف إطلاق النار وتدافع عن العدو الإسرائيلي وهو يقتل عشرات آلاف الفلسطينيين المدنيين ويستمر.
إنه عصر العهر وانعدام الاخلاق، ولكنه في نفس الوقت زمن النفاق والمراوغة والحروب الإعلامية والنفسية التي تصور الأبيض أسود والعكس.
والتاريخ يقول إن لكل نهاية بداية، ولكن الأثمان مكلفة للناس الأبرياء.
أما الكتابة فهي حاجة ضرورية للإنسان المفكر والباحث والسياسي والإعلامي، وهي ضرورية للمجتمع، ولكن إلى متى يكتب الإنسان ولا يرى نتيجة لكتابته ولا تطبيقاً عملياً لها.
صحيح أن الاديب الشاعر او الكاتب الروائي يكتب ولا ينتظر ردود فعل سريعة على ما يرمي إليه في كتاباته، وهي عادة تترك تأثيراً وإن بعد حين، أما الكتابة السياسية فهي تهدف إلى معالجة مسائل حيوية وراهنة وساخنة، وهي ليست للمتعة والتسلية.
وبين كل هذه التداخلات يبقى موضوع جوهري وهو الحفاظ على روح التفاؤل والثقة بانتصار الحق، ولكن يجب عدم دفن الرأس في الرمل، بل يجب التفاعل والتواصل ومحاولة التأثير لتحقيق أهداف يتمناها الشعب بأن يعيش حراً كريماً سيداً على أرضه. ولكن كيف؟.
لابد من العمل والفعل المستمر للتغيير ويجب البدء بالتغيير من الذات، فلا يعقل أن يتحدث الإنسان عن ثورة سياسية لتغيير نظام بأكمله بينما يحمل عقلية ما قبل الثورة اجتماعياً وثقافياً وحتى سياسياً.
أتذكر عبارة للروائي الكبير أستاذي الراحل خيري الذهبي في افتتاح مؤتمر إعلان دمشق الذي عقد في غازي عنتاب 2015، بأنه لا يمكن انتصار الثورة السياسية بدون ثورة ثقافية. أي أن مشكلتنا ليست فقط في المجال السياسي مع أهميته الكبرى، بل في الوعي والثقافة. وعلينا أن نمتلك الثقافة الثورية المعاصرة ولا نستطيع محاربة التخلف والجهل والتعصب بنفس الأدوات، بل بالعلم والتعليم والثقافة والوعي المتنور والاعتراف بحرية الآخر وثقافته وخصوصياته الدينية والقومي، وبالمساواة أمام القانون.
ولا مجال للخوض هنا في الحديث عن أزمتنا الثقافية والفكرية فهي تحتاج لمقالات ودراسات. ولكنني أرى بأن بعضنا يتحدث عن الثورة في الحياة ويستخدم مقولات معادية للثورة ولمصلحة شعوبنا في المشرق. فلا يمكن أن نعتبر أن هناك وحدة حال ووحدة مصير وشراكة تاريخية بين المشرق والغرب. فالغرب الاستعماري التقليدي والحديث هو من عرقل ويعرقل تقدم شعوب المنطقة، وهذا لا يبرئ تلك الشعوب ونخبها من معالجة مشاكلها والتخلص من الجهل والفساد والاستبداد التي تعيق النهضة والتطور الحقيقي. وعندما نتحدث عن الغرب لا نعني بأي شكل من الأشكال الانتقاص من التقدم العلمي والتكنولوجي فيه، بل نقصد الجانب السياسي والثقافي في التعامل مع دول المشرق.
إن ما تحدث به قادة الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين في غزة ووصفهم بأنهم “حيوانات” يجسد جوهر الحضارة الغربية من الناحية الفكرية والسياسية والثقافية وإلا لما قدموا له كل الدعم والمساعدة في حربه المتوحشة ضد أهلنا في غزة.
أين أنتم أيتها النخب السورية والعربية والإسلامية لماذا لا تطرحون مشروعاً عربياً نهضوياً تنويرياً يحارب كل مظاهر التخلف والتعصب مستقلاً عن الخلفيات الحزبية والدينية والتبعية.
هل يعقل أن يقوم نظام الملالي في طهران بتدمير المنطقة العربية من خلال أذرعه من أبناء المنطقة، وبمباركة غربية حقيقية، وإن اقترنت بنقد وحرب كلامية مصطنعة من قبل الغرب وإسرائيل ضد إيران، وهل يعقل أن يتجه العرب إلى المصالحة والتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل المغتصب العدواني بحجة محاربة إيران لينطبق عليهم المثل: “كالمستجير من الرمضاء بالنار”. فإسرائيل عدوة العرب ونظام الملالي في طهران عدو للعرب أيضاً ولا يمكن للعرب إلا أن يعتمدوا على أنفسهم ويقدموا مشروعهم القومي الخاص بهم، ولديهم كل القدرات الاقتصادية والبشرية اللازمة، ولا تنقصهم إلا الإرادة والإخلاص لقضايا شعوبهم ومصائر بلدانهم.