إجابات على بعض الأسئلة التي طرحتها ورقة الندوة السياسية لحزب الشعب الديمقراطي السوري (الهيئة القيادية)
يمكننا القول اليوم بعد اثني عشر عاماً من بداية الثورة السورية، إنّ ما حدث هو كارثة سياسية وإنسانية كبرى حلت بالسوريين، وقد ضاعف الزلزال في صبيحة السادس من شباط/فبراير 2023 المآسي التي حلت على السوريين، وزادت عليهم من المحن والاختبارات الأليمة التي لا يمكن أن يحتملها بشر.
لقد بدأت الثورة السورية كانتفاضة شعبية عفوية، وكان الشباب جزء مهم فيها، كذلك شاركت الشرائح الشعبية التي عانت من الغلاء وزيادة الضرائب، وبالخصوص المزارعين مع ارتفاع أسعار المحروقات بعد ثلاث سنوات من الجفاف الذي تعرضت له سورية، وهو ما تجسد في تصدر محافظتي درعا ودير الزور المشهد الثوري في الأسابيع الأولى للثورة، بالإضافة إلى فتح الأسواق مع تركيا من دون تخطيط مسبق حيث اكتسحت المنتجات التركية الأسواق وأدت إلى إغلاق الكثير من الورشات والمعامل السورية. لكن هذه العفوية التي تميّزت الثورة في أسابيعها الأولى لم يكن بالإمكان تركها من دون رأس سياسي (وعسكري في مرحلة قادمة)، لأن الشباب الذين شكلوا التنسيقيات في البداية لم يكن عندهم الوعي السياسي الكافي، ولا الرؤية السياسية العريضة التي تسمح لهم بتجنب الكثير من الأخطاء التي كان يمكن تجنبها في حضور قيادة سياسية منظمة تقود العمل الميداني. لقد شعر الشباب من خلال تفاعلهم مع ثورة تكنولوجيا المعلومات بوطأة القمع الذي يخضع تحته المجتمع السوري، وأدركوا أهمية الحرية، والثمن الغالي الذي يجب دفعه للحصول عليها. إن شعار الحرية والكرامة الذي رفعه الشباب يختزل ما شعر به هؤلاء الشباب من غياب لأدنى مقومات الكرامة والحد الأدنى من الحريات في المجتمع السوري.
لم يخرج الناس مطالبين بالاشتراكية ولا بالإسلامية والإسلاموية، ولا أكثر بالقومية العربية، هم طالبوا بحقوقهم الإنسانية والمواطنية، وحقوقهم الاقتصادية كمنتجين، حتى العدالة الاجتماعية لم يطالبوا بها، وربما كان عندهم وعي جيد على أن طريق المطالب الاجتماعية يمر عبر التحرر الإنساني والمواطني، عبر التمكين لهم بالمشاركة في صياغة حياتهم، سواء السياسية أو الاجتماعية. حتى شعار المقاومة لم يرفعوه، لا لأنهم مطبّعين زاحفين بل، لأن هذا الشعار تمّ استغلاله والتلاعب به إلى درجة أُفرغ من كل معانيه الجميلة في الحرية والتحرر.
في مستوى التحليل السياسي، الخاسرين الكبار في الأزمة السورية هم أولا المعارضة السورية، وثانيا تركيا، وثالثا الغرب حيث أوضحت الحرب الروسية على أوكرانيا فداحة الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. ومن الخاسرين الكبار العرب، لأنهم لم يدركوا خطورة ما يجري في سورية بالخصوص، والعالم العربي على العموم منذ ثورات الربيع العربي، وذهبوا في سياساتهم تجاه الأحداث بشكل منفصل بالخصوص على الساحة السورية، وركبوا الثورة المضادة في مناطق أخرى، أي وضعوا أنفسهم بيادق في مصلحة روسيا التي شكلت منذ اللحظة الأولى رأس الحربة في الثورة المضادة ضد ثورات الربيع العربي، بينما رحبت إيران بسقوط الأنظمة الحليفة للغرب (مصر، تونس)، والتحقت بالثورة المضادة منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها في سوريا، بينما استغلت الوضع اليمني الهش قبليا وطائفيا لإشعال حرب أهلية في اليمن.
إن الأسئلة المطروحة في هذه الورقة واسعة جدا، وتتناول مواضيع كثيرة من الصعب الإحاطة بها في ندوة أو مقالة، ولكن سأحاول الإجابة على الكثير منها، من دون الزعم من أن تغطي إجاباتي على كافة التساؤلات التي تطرحها الورقة. وسوف أتوسع في بعض الإجابات على بعض الأسئلة كونها تتقاطع مع قراءاتي وانشغالاتي المعرفية، بينما ستأتي بعض الأجوبة أقل توسعاً.
كيف يعود الشعب السوري وقواه الوطنية والثورية الى السياسة ويأخذ زمام المبادرة؟
كيف نبني جسم سياسي جديد يتمتع باستقلالية القرار وحاضنة شعبية، ليقود العمل الوطني السوري، ويكون الحزب جزءا منه. وما هي آليات تحقيق هذه المهمة؟
يجب أن ندرك أولاً أسباب انكفاء السوريين عن السياسة، قبل تناول كيفية العمل على عودتهم إلى الاهتمام بالسياسة والانخراط في الكيانات السياسية والمساهمة في العمل العام، ولهذا شرح قد يطول، ولكن سأختصر ما استطعت.
بالنسبة إلى أسباب انكفاء السوريين عن السياسة هناك عدة أسباب:
1ـ أسباب تتعلق بالنخب السياسية ذاتها:
أولاً، الانخراط في الشأن السياسي في عصر ثورة الإعلام الفضائي والنتي لم تعد بالمهمة السهلة بالنسبة لمن يطالبون بالديموقراطية. المعارضون السوريون يريدون معارضة مثالية ومعارضين مثاليين. وهل كل واحد منا في عمله يصل إلى المثالية. هذا غير معقول.
ثانياً، بعد أن قلنا ما سبق، نتفهم قسوة أهل المعارضة على أهل السياسة في المعارضة، هم يريدون منهم ألا يكونوا منافقين، وأن يعترفوا بأخطائهم مثلهم مثل كل البشر، وأن لا يلجؤوا إلى أسطوانة التبريرات الدائمة. والأمر الآخر، أن يكونوا أمينين على المال العام وشفافين.
ثالثاً، ألا تكون التشكيلات السياسية عبارة عن مزارع تخضع للشللية الضيقة، وأيضا للنزعة التكنوقراطية المضيقة للسياسة ولإنتاج النخب السياسية البديلة، تارة بحجة الخبرة، وتارة بحجة غياب البديل. والحقيقة، أن هذه العقليات هي التي تمنع ظهور البديل.
2ـ أسباب تتعلق بشيوع الإحباط بين السوريين، المؤيدين منهم والمعارضين، المؤيدون اعتبروا الأمر عبارة عن نزهة ستنتهي بسرعة، ولم يتوقعوا أن عسكرة النظام للوضع السوري بعد 2011 سوف تؤدي إلى انهيار اقتصادي شامل، ووضع كافة السوريين على حافة الفقر، والمعارضين لم يتوقعوا هذه النهاية المخيبة لآمالهم في وطن تزدهر فيه الحرية.
3ـ أسباب تتعلق بمعضلة العودة للوطن، بعد هيمنة الميليشيات العسكرية على ما يسمى بـ (المُحرر)، والصعوبات الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها قوات سورية الديموقراطية، والحرب المفتوحة من قبل السلطة التركية الحالية على التشكيلات العسكرية في تلك المناطق وتصنيفها في صف الإرهاب الداعشي، على الرغم من أن الأتراك لم يحاربوا داعش إلا في جرابلس عام 2016، في عملية درع الفرات، وكان الهدف قطع التواصل الجغرافي على تمدد قسد خارج نطاق محافظة الحسكة حيث يوجد أكبر تجمع سكاني من الأكراد السوريين.
ولابد من التنويه إلى بعض الطروحات التي بدأت تظهر في الكتابات السورية الجديدة عن غياب لمفهوم الشعب السوري كي نطرح عودته السياسية، وأن (القوى الوطنية والثورية) لا تشكل سوى مجموعات صغيرة في الواقع خارج التظاهرات الإعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات النتية، وكل ما هو موجود طوائف وقوميات، وبالتالي، لا يجب أن نخجل من طرح الأمور كما هي في الواقع الموضوعي، وكذلك تقبل فكرة عدم (قيامة) سورية موحدة، كون وحدتها في العقود السابقة قامت على القسر وإرهاب الدولة. أظن أنّ هناك بعض المغالطات في هذا الطرح، لأن الواقع الموضوعي يمكن قراءته من وجه آخر لا يرى فيه فقط الجماعات والطوائف، وقد رأينا في محنة الزلزال بعض مظاهر للأمة السورية المتضامنة، في كل المناطق السورية، وخاصة من شرق الفرات إلى المناطق المنكوبة في الريف الشمالي الغربي، وإذا نظرنا من جهة الثقافة والإبداع الفكري والفني الذي يظهر تفرد الإنسان السوري كشخص مستقل، لقلنا بأن هذا الشعب غير قابل للانقراض، وبأنه يحتاج للحرية لكي يفجر ما عنده من طاقات وإبداعات.
أما بالنسبة لكيفية بناء جسم سياسي جديد يتمتع باستقلالية القرار وحاضنة شعبية، هنا لا بدّ لنا من الرجوع إلى المبادئ الأساسية العليا للثورة السورية: الحرية والكرامة. والتجسيد الحقيقي والواقعي لهذه القيم العليا يقوم بالعودة الطوعية إلى الداخل السوري لخلق شروط صحية لإقامة المجتمع المدني في المناطق التي لا تخضع لقوى النظام الديكتاتوري مهما كانت التضحيات، ولن تكون أكبر من تضحيات شعبنا في الداخل بعد الزلزال. لا إمكان للأخذ بزمام المبادرة إلا عن طريق القوى الحية الممثلة للشعب السوري، وهذا الأمر لا يكون إلا بالبدء بإقامة الجسور بين عالم الاغتراب (حيث تقيم أغلب الكوادر السياسية والفكرية والاجتماعية والتقنية) والداخل (المُحرر)، سواء كان في المناطق الخاضعة لتركيا والحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف (الشريط الحدودي القائم من عفرين ـ جنديرس حتى رأس العين)، أو المناطق الخاضعة للسلطة الإدارية للأكراد في الشمال السوري والشمال الشرقي السوري (وتضم مدن كبيرة كالرقة، الحسكة، القامشلي، وأجزاء من مدينة دير الزور)، أو حتى المناطق الخاضعة لحكومة الإنقاذ. يجب أن نخلق أنوية حقيقية للمجتمعات المدنية ندعمها ماديا ومعنويا في كل كيلومتر مربع من الأراضي السورية التي ترفض ممارسات النظام السوري. بالطبع، الزلزال الذي ضرب مناطق كبيرة في شمال سورية وغربها جعل الأولوية للجانب الإغاثي على الجانب السياسي والثقافي والاجتماعي، ولكن علينا ألا نتزعزع في إيماننا بأن أي تحسن دائم في سُبُل معيشة أخوتنا السوريين أينما كانوا (في الداخل أو في الدول المجاورة) لا يمكن أن يحصل إلا في إصلاح هيكلي عميق للتفكير والوعي السياسي، وما يقابلهما على الأرض من حوامل سياسية واجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون الخطاب الذي تتبناه كل القوى والتجمعات السياسية السورية خطابا سياسيا يبتعد ما أمكن عن الشخصنة ويسمي الأشياء بإرجاعها إلى المفاهيم التي تؤطرها في العلوم السياسية والاجتماعية.
تحديد الثوابت الوطنية السورية وأهمها الهوية الوطنية على ضوء مسيرة الثورة ومآلاتها
الوطن كفكرة كمخيال محفّز للعمل والتضحية/والوطن كشيء حقيقي معيش على الأرض.
في البداية، لابد من تحديد المعاني المختلفة لمفهوم الوطنية نفسه. هذا المفهوم (أو ما يقابله في اللغات الأوروبية) في أهم معانيه تطور في الغرب منذ عصر النهضة، مع صعود الدولة الأمة، وهو مرتبط بقوة مع مصطلح العلمانية، خاصة في معناها الأول. ولا بد من الإشارة أن أول تفكير جنيني في العلمانية قبل ظهور المصطلح والوعي الكامل به في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والحديث عن الفصل أو التمايّز بين الدولة والدين، هو في كيفية إيجاد رابطة غير دينية بين الناس في الدولة، بمعنى آخر الخروج من العصور الوسطى حيث كانت العلاقة التي تربط ساكني الدولة هي العلاقة الدينية، والآخرون كانوا (أهل ذمة) بمنطق الكيانات السياسية في العصور الوسطى. ونعرف أن السياق التاريخي لهذ التطور الذي حدث في أوروبا هو الحروب الدينية المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد نتجت عن هذه الحروب معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أسست أول نظام دولي نطاقه أوروبا، كان الأساس في ظهور وتطور الدول الأمم في النطاق الأوروبي.
الانطلاق في حالتنا السورية سيكون من تأسيس الكيان، أي من اتفاقيات سايكس بيكو عام 1916، ومن ثم من تنفيذ هذه الاتفاقيات عام 1920 بعد الإطاحة بحكومة الملك فيصل، والجمعية التأسيسية التي رافقت تشريعيا تلك الفترة القصيرة من بدايات حياة سورية السياسية التأسيسية. من هذه اللحظات تشكلت بعض المعطيات التي ستكون (أو كان يجب أن تكون) أساس التشكل النظري والسياسي للهوية الوطنية الجامعة حول هذه التسمية (سورية)، التي حددت أولاً، إقليم معترف به من عصبة الأمم حينذاك، وثانياً، جماعة سياسية جديدة كان لها أصول تاريخية في العصور الوسطى من ضمن تاريخ الإمبراطورية الإسلامية التي استمرت حوالي 14 قرن، اختلطت فيها الهويات العربية والإسلامية والجهوية والقبلية، والهويات من تاريخ سورية البيزنطي المسيحي؛ وثالثاً، سيادة بدأت منقوصة مع الانتداب الفرنسي، ومن ثم مكتملة مع الاستقلال في السابع عشر من نيسان/أبريل عام 1946. مع الأسف، وبسبب أحداث كثيرة مأساوية، بدأت بالنكبة عام 1948، ومن ثم الانقلابات العسكرية عام 1949، في محيط دولي رافق هذه البداية تميّز بالحرب الباردة والصراع بين الجبارين العسكريين، وإقليميا بالصراع بين مصر والمملكة العربية السعودية. كل تلك الأحداث والعوامل أدت إلى بقاء تلك العناصر، موجودة بالقوة، ولم تنتقل إلى الوجود الفعلي نظريا وسياسيا (انظر بدر الدين عرودكي “الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس“، الصادر عن مركز حرمون، بداية الشهر الماضي تشرين الأول/ أكتوبر 2020). الوحدة مع مصر عام 1958، كانت نقطة البداية لدخول (سورية) هذا البلد الحديث أزمة طويلة انتهت إلى ترسيخ ما يدعوه ياسين الحاج صالح بـ (الدولة السلطانية المحدثة)، التي أدخلت البلد في عقدها الأخير في أزمة خطيرة (انظر محمد جمال باروت في العقد الأخير من تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح، المركز العربي للأبحاث والنشر ودراسة السياسات، 2012)، انتهت باندلاع الثورة السورية في الخامس عشر من آذار/مارس عام 2011، وحرب أهلية طاحنة رافقتها تدخلات إقليمية ودولية، انتهت إلى كيانات أربع هشة متصارعة فيما بينها، وفي داخل كل كيان.
لقد بقيّت هذه المعطيات الأساسية معطيات خام لم يشتغل عليها لتأسيس (الأمة) و(الجماعة الوطنية) كهوية وطنية جامعة، لتكون الأساس لبناء الكيان السوري كـ (دولة ـ أمة) تكون قادرة على مواجهة الصعوبات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية.
إذن، إشكالية مصطلح الوطنية في السياق السوري على الخصوص هو سوء فهم هذا الارتباط بينه وبين تطور الدولة ـ الأمة وبين العلمانية. لأن الديموقراطية المأمولة من دون العلمانية في معناها الأول كرابطة غير دينية بين أفراد الجماعة، هذه الديموقراطية يمكن تنحرف إلى أماكن لا تفي بالغرض المطلوب منها للتحرر من الاستبداد، وأيضا لضمان عدم عودته، ولكيلا نسمع يوماً أقوال تترحم على النظام القديم كما نشهد في وسائل التواصل الاجتماعية العراقية بصورة هيستيرية. من هنا نفهم كثرة تداول هذا المصطلح لدى الطبقة السياسية السورية كونها تأخذ فقط الجانب التاريخي والرومانسي والسردي للمفهوم، أو أحيانا يكون المعنى المقصود أمور أخرى سنتطرق لها لاحقا. بلغة أخرى، يجري تداول المفهوم لدينا بكثرة مفصولاً عن أرضيته الصلبة، أي المواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان في الدولة ـ الأمة. ونشهد محاولات فلسفية سورية كثيرة (انظر جاد الكريم الجباعي في تأملات في المسألة الوطنية، وحسام الدين درويش وحازم نهار، وباحثين سوريين آخرين) لتأسيس مفهوم الوطنية والأمة على المواطنة والحقوق فقط، أي تحويله إلى مفهوم حقوقي بحت، وفصله عن أي مضمون تاريخي ورومانسي وسردي، وهو شيء لا أتبناه بالمطلق، كون التجربة الأوروبية في تبني هذا التوجه فاشلة. لذلك ألح على هذه العلاقة الجدلية بين المحتوى القانوني الصلب له أي المواطنة في إطار دولة القانون، والمحتوى التاريخي والرومانسي والسردي.
والملاحظة المنهجية الثانية، أنه لا بدّ في أي تأسيس تكويني جديد للجماعة من البدء بالإنسان، وهو ما أهملته الكتابات النظرية في فترة الجمهورية السورية الأولى (1920 ـ 1958)، وفي الفترة التالية تضاءل الاهتمام بهذه الوطنية مع تحول مفهوم الوطن السوري إلى مجرد (القطر) السوري في سلسلة الأقطار التي تنتظر اكتمال وجودها، وتحقق استكمالها الكامل في منظومة (الوطن العربي) اليوتوبية. لا يمكن بروز الوطنية والوطن، بصورة حديثة إلا بعد التأكيد على الانتماء إلى الإنسانية، وأي أيديولوجية سياسية تضع السورية أو العربية أو الكردية أو الإسلامية قبل الإنسانية ستتحول إلى أيديولوجية منغلقة (وحتى فاشية في بعض الأحيان كما بالنسبة للبعث والقومي الاجتماعي السوري) تستثمر في الدفاع عن المفاهيم الجمعية (الشعب، الأمة) دفاعا شعبوياً، ضاربة عرض الحائط بالإنسان والفرد والشخص السوري.
والملاحظة المنهجية الثالثة تتعلق باستعمال مصطلح (الوطني)، المعنى الأول للمفهوم تمّ شرحه في الملاحظة المنهجية الأولى، والمعنى الثاني يشير إلى المحلي، كأن نقول هذا المنتج وطني، أو في المجال السياسي التطلع الداخلي أو اقتصار الأيديولوجية السياسية على الواقع الداخلي مثلا، كأن نقول بأن حزب النهضة الإسلامي في تونس أصبح يعلي تطلعه الوطني على ارتباطاته مع الأحزاب الإسلامية في العالم أو في التمسك بمفهوم (الأمة) الإسلامي كأحد المفاهيم السياسية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، فنصف هذا الحزب بأنه وطني. وفي الساحة السورية هناك حزب وعد (الحزب الوطني للعدالة والديموقراطية) الذي يتبنى المرجعية الإسلامية. باختصار، تعمني كلمة الوطني في معناها الضيق تغلب الضرورات والغايات السياسية الداخلية على البرنامج السياسي، بلغة أخرى، تنفصل الأهداف الداخلية مثل الديموقراطية عن التجسيد السياسي لمفهوم (الأمة) الإسلامية في نظام الخلافة أو نظام عصبة أمم إسلامية لدى الأحزاب الإسلامية. والأمثلة كثيرة في هذا المجال مع الأحزاب الأيديولوجية الأخرى على الساحة السورية (العربية، الكردية، الماركسية). وهناك من استعمل تعبير (الوطني)عن التناقض مع المشروع التغريبي. يتحدث لؤي صافي عن (المشروع الوطني التضميني)، فالوطني هنا يدل على أنّ المشروع مضاد للتغريب، وتضميني بمعنى تجاوز الطبقات والقوميات والأديان، أي يشمل الجميع. لكن الغرابة أن صافي لا يقصد مشروعا للدولة المنشودة بل، مشروعا للأحزاب السورية ما يتعارض مع التعددية المطلوبة في الدولة الوطنية الديموقراطية، فهل ستطالب بمنع الأحزاب القومية (العربية والكردية)، وكذلك الإسلامية من العمل السياسي؟ (انظر ندوة النظام السوري: تحولات البنية في ظل الأزمة، المركز العربي، 16/05/2018).
هذا بالنسبة لمصطلح الوطنية، أما لتوصيف هذه الوطنية، فهنا تبدأ المشاكل العويصة، سواء على المستوى النظري أو التطبيقي. ونشير من البداية بأننا نتحدث عن الهوية السياسية لساكني الدولة وليس، عن الهوية القومية أو الدينية؛ وكذلك عن توصيف هذه الوطنية، والدولة المنشودة، وهي كلها أمور ليس من السهل الخوض بها من دون أن يتعرض الباحث لانتقادات شتى عنيفة من أنصار الأيديولوجيات القومية والإسلامية. نقول إن أي توصيف للهوية السياسية للدولة المنشودة، ولساكنيها ترتفع عن واقع (السورية) و (الوطن السوري) ستكون عملية إخفاء لمعاناة الناس الذين يكدحون يوميا في سبيل قوتهم اليومي، من أجل خلق ومراكمة إيجابية في أرضية الإنتاج على المستوى الاجتماعي. وسياسيا محاولة رومانسية للهروب نحو كيانات فوق وطنية أو تحت وطنية تكون مصدرا لاضطرابات نظرية لا يمكن أن تنتهي. فالقومية العربية والماركسية والاشتراكية والإسلاموية لا يمكن أن تطغى أو تكون قبل واقع الناس على الأرض في رقعة التراب السوري من أقصى نقطة في شمال شرقي سورية على الحدود مع العراق وتركيا إلى أقصى نقطة في الجنوب السوري على الحدود مع الأردن. وطننا الأول والأخير، يجب في رأيي أن يكون سورية، وانتمائنا الأول والأخير، هو أيضا برأيي يجب أن يكون للأمة السورية، الأساس الذي تبنى عليه الدولة الأمة والنظام الديموقراطي. هذا لا ينفي الدائرة العربية القريبة التي تقع فيها سورية، وتجسدها جامعة الدول العربية التي يجب إصلاحها بصورة جذرية لتكون تجمع أمم وشعوب ودول تؤمن بقيم الحرية والكرامة.
بناء على ذلك، يمكننا تحديد الثوابت التي ندافع عنها، إنها بالترتيب، أولاً، الانتماء إلى الإنسانية وقضايا الإنسان، والمشاركة الفاعلة والإيجابية في القضايا التي تمس الإنسان عالميا، وأولها الحرية والكرامة والقضايا البيئية ومقاومة التعسف والاستبداد وتمكين المرأة في المجتمعات النامية؛ ثانياً، الانتماء إلى الأمة السورية والجماعة الوطنية السورية؛ ثالثاً، الانتماء التاريخي والثقافي والجغرافي إلى العالم العربي.
أما بالنسبة لموقع الدين في هذه الثوابت الثلاث، من حيث المبدأ أن الدين والتدين مسألة فردية. بمعنى لا يمكن للمجتمع أن يؤمن أو يكفر، أو أن يكون للدولة دين، أو بمعنى أن الجماعة تؤمن أو تكفر أو تقوم بواجبات الصلاة والزكاة والحج والأمور الأخرى التي يقوم بها المؤمن حصرياً. أما بالنسبة للإسلام باعتباره الثقافة الدينية لأغلبية المجتمع السوري، فيمكن إلى التوصل إلى صيغة توافقية توضع في مقدمة الدستور، أما التفاصيل فتترك للأعراف المتعارف عليها.
تحديد موقف واضح للحزب من أهم القضايا السياسية المطروحة على الساحة السورية
موضوع المعارضة السورية الرسمية (الائتلاف الوطني السوري)
أولاً: لا يمكن اعتبار كيانات المعارضة السورية الرسمية (المجلس الوطني السوري، الائتلاف الوطني السوري، الهيئة العليا للمفاوضات، لجنة صياغة الدستور) وكأنها منفصلة عن المكونات السياسية والشخصيات المستقلة والمكونة لها.
ثانياً: من السهل الحكم على الماضي بعد أن تبلور بطريقة أو بأخرى، وعلينا دائما الأخذ بالاعتبار السياق التاريخي ليكون نقدنا موضوعي وليس لمجرد الانتقاد.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها المعارضة الرسمية هي أولا، في بدايات الثورة وما رافقها من انتشار الروح الثورية الرومانسية، حيث ظهرت كثير من الخطابات التي تستسهل الصعوبات القائمة، وتتحدث بطريقة لا تنم عن وعي تاريخي للتحولات الكبرى في المجتمعات، وبالخصوص في مجتمعات ما زالت تحبو في طريقها نحو التحديث والحداثة. الرومانسية الثورية مرض قاتل للتفكير السياسي والعمل السياسي. بعد تشكيل المجلس الوطني كان على المعارضة أن تمتلك زمام المبادرة السياسية، لا أن تترك الأمر للتنسيقيات. كان لا بدّ من المعارضة الرسمية التواجد الدائم في المناطق المحررة إلى جانب الشباب في التنسيقيات، ومحاولة تشكيل قيادة سياسية حقيقية للثورة، وبالخصوص عند المنعرج الرئيسي حيث ظهرت العسكرة في صفوف التنسيقيات، كون العسكرة كانت ستفضي حتما للأسلمة والفوضى في غياب القيادة السياسية والعسكرية المنظمة والموجهة للعمل الميداني. لقد غاب الرأس فاضطرب الجسد في أداؤه، وحدث ما حدث. ولا أعني بقولي أن وجود القيادة كان سيقلب المعادلة بطريقة جذرية، ولكن كان يمكن أن يخفف من الخسائر، ويبقي المعارضة السورية، بجناحيها السياسي والعسكري لاعب أساسي في أي حل قادم يحفظ بعض المطالب التي خرج الناس في سبيلها. الخطأ الكبير الثاني هو استنساخ النموذج الليبي، وهو خطأ في الرؤية الاستراتيجية كبير جدا، بالخصوص بعد فشل الأمريكان في العراق، والفشل الأطلسي في ليبيا، حيث حدثت تغييرات كبيرة في الاستراتيجيات الغربية، وبالخصوص الأمريكية تجلت بصورة جلية عام 2014 بـ (عقيدة أوباما الجديدة). بالإضافة إلى ضعف الثقافة السياسية، واعتماد المعارضة في كافة مستوياتها إلى اليوم على خطاب أخلاقوي، بدلا من الإصرار على التأكيد على الأهداف السياسية، وترك الخطاب الأخلاقوي للمنظمات السورية التي تهتم بحقوق الإنسان. وهذا النقد يشمل كل التكوينات السياسية، وليس فقط معارضة الائتلاف.
ثالثاً: لم يظهر المجلس أو الائتلاف يوما بمظهر القيادة الموحدة للمعارضة، بل عبارة عن تجمع تيارات سياسية تتقاتل على الحصص والمناصب وخصوصا الاستراتيجيات التي يجب العمل بها لتأكيد الصفة القيادية أمام الداخل والخارج، وكأن السلطة قادمة قريباً.
وأذكر جملة كنت أكررها دائما، هذه الثورة التي وصفها ياسين الحاج صالح بـ (الثورة المستحيلة)، كانت تتطلب من المعارضة الرسمية تقليل الأخطاء ما أمكنها ذلك، مع الأسف ما شهدناه هو غير ذلك. ربما يرجع ذلك موضوعيا إلى تصحر المجال السياسي المدني في سورية لمدة ستين عاما، ما خلف ضعفا في الأداء السياسي، وارتباكا في اتخاذ القرارات المصيرية في الوقت المناسب.
لكن، يبقى كشف الأخطاء لتخطيها أفضل من ثقافة التبرير وتحميل الغرب مسؤوليات فشل الثورة السورية، وما يستجر عن ذلك من تلبس ثقافة الضحية الدائمة، والتعامي عن العثرات لتصحيحها في الوقت المناسب.
نقطة أخيرة، بالرغم من إنني لا أحب تحميل مشاكلنا على الغير، أن الموقف العربي كان كارثيا، وأنهم لم يدركوا أهمية الوقوف إلى جانب الثورة السورية، وأنهم راهنوا على أدوات خاسرة وتركوا عناصر إسلامية سلفية تساهم في أسلمة الثورة دون إدراك المخاطر الجسيمة، وسيكشف التاريخ فداحة هذا التقصير الذي قام به العرب بمساعدة السلطة التركية. وأشير فقط إلى ظاهرة الشيخ العرعور التي انتشرت بسرعة كبيرة في الأوساط الشعبية المتدينة في مدينة حلب، وأتذكر زميلي الطبيب الذي تحمس للثورة بالرغم من عدم اهتمامه بالسياسة، وضعف الوعي السياسي لديه، هذا الزميل خرج في إحدى المظاهرات الشهيرة في مدينة حلب، وجاءني في المساء إلى العيادة ليقنعني بظاهرة العرعور، وقد حاولت المستحيل لأستميله إلى لجان إحياء المجتمع المدني لكي يحضر معنا ويكتسب ثقافة سياسية مدنية، ولكنه لم يأتي، ولم أسمع عنه من يومها.
لقد أضعنا أوقات ثمينة في الحديث عن المعارضة السورية الرسمية وأداءها الضعيف والمرتبك. والسؤال المطروح: كيف لمعارضة توصف من قبل أغلبية السوريين المعارضين بكافة الأوصاف السلبية المعروفة في اللغة العربية أن تستمر بالرغم من ذلك بصفتها الممثل الرسمي الناطق باسم المعارضة السورية؟ ربما هنا يوجد قطبة مخفية، وهي ضعف أداء وتمثيل أغلب الكيانات السياسية الهامشية التي تعمل من خارج الائتلاف. وكنت قد أشرت في مقالة لي تحت عنوان المعارضة السورية الجديدة، هل فعلاً من جديد؟ (الحوار المتمدن، 15/12/2021): «إن المنطق الشعبوي والرومانسي الذي ساد لدى كل التجمعات والتشكيلات التي بدأت تنمو بالتحديد منذ نهاية عام 2016، وبداية الوعي بصعوبة إسقاط النظام السوري القائم، كانت تسير ليس في إطار منطق وروح العمل الديموقراطي الذي يقوم على التراكم مع تصحيح الأخطاء بالمنهج العقلاني النقدي، بل كانت تقوم ضمن منطق الطاولة النظيفة. كل النخب السورية التي تعاقبت على تسنم قيادة المعارضة هي نخب فاشلة، وأحياناً فاسدة، وربما بالنسبة للبعض (خائنة)، وبالنتيجة، يجب عمل ثقافة الحذف (كانسل) والبدء من جديد، وهكذا دواليك ننتقل من فشل إلى فشل آخر، ومن خيبة إلى خيبات أخرى تؤدي إلى مراكمة اليأس والاستقالة بدلاً من مراكمة التجارب الناجحة وشطب الأخرى الفاشلة، وتصحيح الأوضاع والانطلاق من جديد، دون شطب من سبقنا بصورة تنم عن ((نخبوية)) لا تريد أن تعلن عن نفسها، بل تتخفى في أردية الثورية المفرطة، والمدمرة في الوقت نفسه».
لنحاول أن نكرس ولو النصف من جهودنا وممارساتنا، سواء السياسية أو الفكرية، التي تهدر في نقد المعارضة الرسمية، نكرسها لإصلاح الكيانات السياسية السورية القائمة وتحسين أداءها وخطابها السياسي، ومحاربة الشللية والشخصنة، وفتح مجالات متنوعة للتعبير عن الرأي والتواصل، والتخفيف من النزعة النخبوية، وهي الأمراض التي تجعل السوريين يبتعدون عن العمل السياسي، ويفضلون الاتجاه نحو العمل الإغاثي.
برأيي المتواضع، لن ينصلح الائتلاف إذا لم ننجح في بناء كيانات سياسية، ومنظمات مدنية، تكون القيمة العليا فيها هي للمصلحة العامة، وليس مصلحة شخص أو مجموعة تستملك القرار داخل هذه الكيانات وتعطل الإصلاح، وكذلك حصول التناوب بين الأجيال بصورة سلسة وحضارية، وليس دائما عن طريق قتل الأب للحلول مكانه كما يقول فرويد.
والحل الذي أقترحه هو تشكيل قيادة مصغرة رديفة للائتلاف تشمل عشرة أشخاص من مدنيين وعسكريين، يخضع اختيارهم لمعايير محددة: الرؤية الاستراتيجية لسورية المستقبل، القدرة على تبني خطاب سياسي عريض يستطيع جمع شتات الشعب السوري في كل المناطق ومن كل الكيانات، القدرة على مخاطبة الغرب والدول التي لم تنخرط في العداء للثورة السورية، بالإضافة إلى المصداقية والنزاهة. إنّ التمتع بالمصداقية والوطنية والنزاهة، وهي قيّم تلغي كل التقسيمات الطائفية والقومية، الناس عندما تكون أمام قيادة نزيهة ووطنية لن تسأل هل هم من السنة أو الدروز أو التركمان أو الأكراد، أو تدقق عن وجود تمثيل مسيحي وتمثيل علوي إلخ، قد يكونون كلهم من العلويين أو كلهم من السنة، لن يتطلع السوريين إلى طوائف وأصول هؤلاء طالما تمتعوا بالمصداقية والنزاهة والروح الوطنية.
ليس الغرض هو استبدال الائتلاف ومؤسساته الرسمية بمعارضة أخرى بل، محاولة توجيه بوصلة الثورة السورية بعيدا عن توجيهات الدول، وكذلك بعيدا عن الرضوخ للواقع الفصائلي فيما يسمى بـ (المحرر)، فالائتلاف لم يعد قادراً على هذه الاستقلالية في اتخاذ القرارات وتحديد التوجهات المستقلة للثورة السورية.
المسألة الكردية
موضوع شائك، ولكن تجنبه لا يفيد القضية السورية. في إحدى الندوات التي عقدتها لجان إحياء المجتمع المدني في حلب إبان الأشهر الستة الأولى، كان الحديث في الوضع في شمال شرق سورية، وبالخصوص في محافظة الحسكة، هو الموضوع الذي ارتفعت فيه الأصوات بصورة غير اعتيادية. كانت المسألة الأولى التي أثارت البعض من العرب السوريين من الذين حضروا الندوة هي طرح الموضوع بصيغة (المسألة أو القضية)، وكان أحد هؤلاء المعترضين من حزب الشعب. اليوم يجري الطرح لقضية الأكراد السوريين في شمال شرق سورية تحت عنوان (المسألة الكردية) من دون إثارة أي نقاشات قبلية، وأعتبر ذلك تطورا إيجابيا للوصول إلى مناقشة هادئة في هذه المسألة الأساسية للحل النهائي في سورية، والذي نأمل حصوله في أقرب وقت ممكن تخفيفا للآلام الجسيمة التي تحملها السوريين خلال 12 عاما، وآخرها كانت محنة الزلزال.
في البداية، نستثني أي طرح انفصالي من الناحية العملية، كونه ليس الطرح الذي يتصدر قائمة المطالب من طرف الممثلين السياسيين لغالبية الأكراد السوريين، وأيضا كون هذا الطرح غير واقعي ومدمر لكل الأطراف وأولها الطرف الكردي، فالتجربة السياسية في شمال العراق المطالبة بالانفصال في الاستفتاء الشهير سقطت خلال 48 ساعة، وأدت إلى خروج السيد مسعود البرزاني من الحياة السياسية. لذلك نعتبر هذا الطرح كارثي على الأكراد أولا وأخيرا، ونأمل ألا يعود البعض إلى إثارته تحت بند حق تقرير المصير للشعب الكردي.
بعد أن استثنينا قضية الانفصال من الناحية العملية، يبقى أمامنا طرحان، الأول هو الاستقلال الذاتي لـ (الإقليم الكردي!) ضمن نظام فيدرالي، وهو طرح الأحزاب الكردية المهيمنة على الإدارة الذاتية في شمال شرقي سورية، ويهيمن على قرارها حزب الاتحاد الاشتراكي الكردستاني، وذراعه العسكرية قوات سورية الديموقراطية. هذا الطرح أيضا أظهر ضعفه في مواجهة موقف تركي رافض بشدة لأي طرح كونفدرالي أو فيدرالي، ولا حتى للقول بوجود مسألة كردية، ناهيك عن غياب الشروط الجغرافية والسكانية لهذا الإقليم الكردي، كما هو الحال في شمالي العراق.
وهناك الطرح الآتي من غالبية تشكيلات المعارضة السورية والذي يقول بلامركزية إدارية موسعة لكافة الأقاليم السورية بعد إعادة رسمها جغرافيا، ويتجنب الحديث عن سلطة ذاتية تفترض تغيير النظام السوري نفسه من جمهوري إلى كونفدرالي أو فيدرالي.
في الحقيقة، ليس لدي موقف محدّد إلى اليوم من الطرحين، وإن كنت أقرب إلى الطرح الثاني. والمطلوب اليوم في سياق الظروف الجديدة، هو في فتح الحوار مع الإدارة الذاتية الموسعة القائمة منذ 2014، وعدم التأخر عن ذلك، لأنه أصبح ضرورة لمواجهة التحديات الجديدة، ويقوم أساس هذا الحوار على تصور الأمة السورية التي تحتوي على قوميات متعددة.
وأقول باختصار، إن طرح مفهوم (السورنة أو السورية) بصورة الأمة والجماعة الوطنية السورية، هو التسوية التوافقية بين الأيديولوجية القومية العربية والأيديولوجية القومية الكردية في سورية، بعيدا عن ثقافة العد المدمرة والأغلبيات والأقليات القومية، لا لإلغائهما معاً، ولكن لتحييد الدولة السورية المأمولة من كل الصراعات الأيديولوجية الموجودة في الفضاء السياسي.
معرفيا (وليس أيديولوجيا)،هناك صعوبة في وصف أنفسنا جمعيا على المستوى الجمعي كساكنة في المساحة المخصصة لنا ككيان سياسي معترف به دوليا منذ عام 1920 (مثلنا مثل باقي التشكلات الجمعية)، وأيضاً على مستوى وجودنا كسوريين (إذا انتهينا من وصف أنفسنا كذلك) في المنطقة، فأهون الشرور هو أن نقول أننا ننتمي إلى (الأمة السورية)، التي تضم من الناحية القومية عرب وأكراد وسريان وأرمن وتركمان وشركس وغيرهم، وأن نتخلى تماما عن ثقافة العد المدمرة كوننا أصبحنا (أخوة) في هذه الأمة التي ستصبح متضامنة في الأفراح والأتراح، في المناسبات السعيدة وفي الأزمات والكوارث. أما على مستوى وجودنا في المنطقة، فنحن في الدائرة العربية لغويا وثقافيا وليس إثنيا وقومياً، وفي الشرق الأوسط جغرافيا وإقليميا، وضمن نطاق حوض البحر الأبيض المتوسط حضاريا كما أشار طه حسين عندما أراد موقعة مصر حضاريا في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عام 1939.
وأخيراً، الوحدة المطلوبة في إطار الجمهورية السورية والأمة السورية (وحدة الأرض والشعب) التي تتخوّف منها بعض التيارات الكردية السورية لن تقوم بأي ثمن كما هي الحال في الأنظمة التي سادت منذ الستينيات في العالم العربي وفي المنطقة، بل في إطار الممارسة التعددية الديموقراطية في إطار الأمة السورية الجامعة، وفي إطار الحفاظ على حرية المواطن السوري والفرد السوري بعيدا عن سلطة الجماعات، وهي القيمة الأساسية الذي يجب أن يضمنها الدستور الجديد، وتربى عليها الأجيال الجديدة.
موضوع الطائفية
لا مشكلة لنا مع الطوائف إذا كان مكانها هو المجتمع الأهلي وليس المجتمع المدني أو السياسي. الأمة السورية تتكون من مواطنين يجمعهم إطار جغرافي محدّد بحسب القوانين الدولية. والأمة السورية فيها مكونات دينية ومذهبية وإثنية، يجب تنظيمها فيما يسمى بالمجتمع الأهلي. ويمكن تمثيل هذا المكونات فيما يسمى بالمجالس الاستشارية التي تسمى بمجالس الشيوخ، ولا تكون لهذه المجالس سلطة التشريع، بل سلطة إبداء الرأي والنصيحة والتعاون مع السلطة السياسية التنفيذية والتشريعية.
أما الطائفية السياسية، فهي نتيجة الممارسات الدكتاتورية للنظام السوري، وما يسمى بالنظام الديموقراطي عن طريق المحاصصة كما هو الحال اليوم في لبنان والعراق. لا يمكن للمجتمع الديموقراطي والدولة الوطنية الديموقراطية المأمولة في سورية، أن يحلا قضية الطائفية السياسية التي تفاقمت خلال ستين عام من الحكم الديكتاتوري بعصا سحرية. يتعلق الأمر، بالتربية السياسية القائمة على ثوابت البيت السوري الجديد القائم باختصار على الوطنية السورية والتعددية السياسية، أن تساعد دولة القانون القادمة في التخفيف من وطأة هذه المشكلة التي ستواجه السير الطبيعي للنظام الديموقراطي المأمول في سورية الجديدة.
يجب أن نكون واقعيين في مواجهة الإرث الثقيل الذي سيتركه وراؤه النظام الحالي في سورية، والمهمة الصعبة في علاج هذا الإرث الصعب، ومنه إرث الطائفية السياسية التي تحتاج إلى مزيد من الممارسة الديموقراطية المواطنية في إطار الأمة السورية الجامعة لكل المواطنين السوريين، وأيضا لكل المكونات الأهلية لهذه الأمة أو الجماعة الوطنية. وكل تقدم للعملية الديموقراطية يحدث في إطار الجماعة الوطنية الجامعة يشكل تراجع للطائفية السياسية في الجمهورية السورية الجديدة، التي نأمل كلنا أن تكون قريبة، أما الخيار الآخر، فهو ثقافة العد وحروب الكل ضد الكل المدمرة.
نقولها بصراحة، لن ننتهي من ثقافة العد دينيا (مسلمين ومسيحيين ويهود ولا دينيين)، ومذهبيا (سنة وشيعة في الأساس)، ولا عرقيا وقوميا (كُرد وعرب) إلا في ظل مفهوم الأمة السورية المتضامنة في السراء والضراء في ظل الدولة الوطنية الديموقراطية.
مقولة الديمقراطية وتطبيقها في سوريا
(الديموقراطية، هي التنظيم السلمي لخلافاتنا)
على الورق، وكموقف سياسي ثابت، لا حل في سورية إلا بالدولة الوطنية الديموقراطية، ولكن في الواقع يجد المؤيدون لهذا الحل على الأرض تحديات كثيرة للتحوّل الديموقراطي في سورية، أولها غياب الديموقراطيون أو ندرتهم مع تكاثر المنادون بالديموقراطية.
ثانيا، هناك نقص في الثقافة الديموقراطية لدى النخبة السياسية والفكرية المطالبة بالديموقراطية، وهذا الأمر ينعكس على السوريين العاديين، وأعزو هذا النقص عند هؤلاء كونهم ما زالوا يدورون حول بعض المفاهيم الحديثة التي تخطاها الفكر منذ عقود (أو مفاهيم الحداثة الأولى)، وأخص بالذكر فهمهم للديموقراطية، الليبرالية، العلمانية، وغيرها على أنها جواهر ثابتة، وأيضا فهمهم غير التأويلي للدين كونه نص لا يحتمل سوى تفسير مقاصدي واحد. قليل ممن يمارسون السياسة والكتابة السياسية الفكرية عندهم مثلا فهم لقراءة النصوص بالطريقة التأويلية، الأغلب يريد استخراج حقائق جوهرانية من النص سواء أكان نصا دينيا أم فلسفياً أم سياسياً. لنأخذ مثال على ذلك الموقف من فهم الإسلام الذي يشكل الثقافة الدينية لأغلبية السوريين؛ الحداثي يقرأ الإسلام بأنه دين عقلاني قد خُطف من قبل الظلاميين أو ما يسمونه بنظرية الدين الموازي، والأزهر يقول إنه يمتلك النسخة الوسطية الصحيحة للإسلام، وداعش والقاعدة تقولان إنه الحاكمية الإلهية وتعيين الخليفة وتكفير المخالف، وهكذا يتم النقاش في هذا الموضوع الخطير الذي ينقسم حوله السوريون بشكل عامودي. يظهر أن هناك صعوبة في القول إن الإسلام هو كل هذه الفهوم، ولكنني أفضل الفهم العقلاني، أو الفهم الوسطي التقليداني للأزهر، أو فهم الجهاديين، أو فهم الفلاسفة المسلمون مثل ابن رشد، أو فهم المتصوفة الفلاسفة أمثال ابن عربي، أو فهم المعتزلة والمُرجئة، إلخ..؛ بهذه الصورة نؤسس ديموقراطيا للنقاش والحوار حول أهم موضوع يقسمنا عموديا، وهو كيفية فهم وتلقي الدين من النصوص. قد يجهر الكثيرون من النخب الحديثة على أنهم ديموقراطيون، ولكنهم يتعاملون مع المقولات والمفاهيم بطابع أيديولوجي يكره التفريق والتمييز، وحتى الفويرقات (Nuances) بلغة فولتير، يتصورون الأمور على أنها على وجهين فقط، أبيض (وجهة نظره)، وأسود (وجهة نظر الآخر)، بينما الإقرار بفهم الآخر، الإقرار بالفهم التعددي، هو المدخل إلى الثقافة الديموقراطية عند النخب السورية السياسية والفكرية. ليس في ورادنا الدعوة إلى فكر وفلسفة التفكيك بل، إلى مقاربة تأويلية للنصوص والمفاهيم والوقائع.
وأضيف نقطة أخيرة في هذا التناول، أن نقص الثقافة الديموقراطية عند النخب تتجلى أكثر ما تتجلى في الممارسة، وكيفية اتخاذ القرار، فالبعض يعتقد أن الديموقراطية هي في السماح لكل الآراء في أن تعبر عن نفسها، وبعدها كمسؤول أفعل ما أريد. وفي المقلب الآخر، يعتقد البعض أن الديموقراطية هي على الدوام 51%، أغلبية قاهرة وأقلية خانعة، قد نلجأ في الانتخابات إلى هذا الأمر، ولكن ليس شريعة ثابتة، وبالخصوص في المواضيع المصيرية.
وهناك الخوف في أن تنحرف الديموقراطية في مجتمع غير حديث إلى ديموقراطية المحاصصة كما حدث في العراق، وكما هي في لبنان منذ دستور عام 1943 الذي وزع المناصب بالمحاصصة بين الطوائف الثلاث الكبيرة: المارونية والسنية والشيعية. ومع اختلال الصيغة الديموغرافية لصالح الشيعة والتدخلات السيئة للجارة السورية، حدثت الحرب الأهلية في لبنان ولم تتوقف إلا في صيغة الطائف المخطوفة التي قتلت معها (الحرية) القيمة الوحيدة التي عاشت وانتعشت في ظل ديموقراطية المحاصصة خلال الفترة 1943 ـ 1975.
فالخطر الأول على الديموقراطية في سورية هي انحرافها إلى ديموقراطية المحاصصة لغياب النسيج الوطني بسبب ستين عاما من الديكتاتورية التي جمدت المجتمع في صيغة تبدو فيها الدولة هي الحكم الوحيد والمطلق مع رفض أي وسائط من المجتمع المدني، وفي ديموقراطية المحاصصة يجري الخلاف على الوطن، وليس داخل الوطن.
المخاطر الأخرى لتطبيق الديموقراطية في سورية هي غياب الشرط الاجتماعي، أي عدم وجود طبقة وسطى واسعة، حيث ينقسم المجتمع السوري الحالي إلى طبقة عليا تملك الكثير من ثروات البلد، وطبقة فقيرة عريضة وواسعة لا تملك سوى قوة عملها وكدحها، وبينهما طبقة وسطى تم إضعافها على مدى ستة عقود من حكم الدكتاتورية، وانتشار الفساد بشكل كبير في جميع مفاصل مؤسسات الدولة. بالإضافة إلى أن التزايد السكاني الانفجاري السريع يؤدي إلى تضخم حجم الطبقة الفقيرة والطلب المتزايد على العمالة، ويدفع شرائح النخبة إلى الانقلاب على الشرط الديموقراطي بالالتجاء إلى الجيش. والحقيقة، أن انهيار الطبقة الوسطى وتوقف المصعد الاجتماعي عن الفعل من أهم أسباب الثورة في سورية، وهو من العوائق في التحوّل الديموقراطي في سورية.
العامل الأخير، هو قوة الإسلام السياسي. في السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر من عام 1991، جرت في الجزائر أول انتخابات تشريعية حرة وتعددية لم يشهد العالم العربي مثيلا لها من قبل على الإطلاق. وقد فازت جبهة الخلاص الإسلامية بالأغلبية الساحقة في الدور الأول، وكان من المتوقع حصولها على أغلبية برلمانية كبيرة بعد الجولة الثانية المتوقع عقدها في السادس عشر من كانون الثاني، يناير 1992. وفي الحادي عشر منه استقال الرئيس الشاذلي بن جديد (أو أجبر على الاستقالة)، واستلمت المؤسسة العسكرية زمام الأمور، وألغت الجولة الثانية من الانتخابات، وتم حل جبهة الخلاص الإسلامية، وعين الجيش السيد محمد بو ضياف رئيسا للجمهورية، وبعد مقتله الغامض، عين علي كافي لفترة وجيزة، وأخيرا فاز مرشح الجيش الجنرال اليمين بن زروال بالانتخابات الرئاسية عام 1994، وبقي في السلطة حتى عام 1999، حيث جاء بعده عبد العزيز بوتفليقة الذي بقي في السلطة عشرين عاما حتى عام 2019.
مثال الجزائر، يمكن تطبيقه على مصر في ظل حكم الإخوان المسلمين في الفترة 2012 ـ 2013، نفس السيناريو تكرر. والجزائر ومصر ما زالتا إلى يومنا هذا محكومتان بسلطة وقبضة الجيش.
لكن، اليوم الوضع داخل الإسلام السياسي مختلف عما كان عليه في نهاية الثمانينيات، وهو ما يدفع إلى التخفيف من صيغة التعميم السابقة، فأحزاب إسلامية مثل النهضة في تونس والعدالة والبناء في المغرب أصبحا قريبين جداً من صيغة الأحزاب المحافظة في الدول الديموقراطية العريقة، وهو تطور ملموس ونشجع عليه، وندعو كافة الكيانات الإسلامية في المعارضة السورية أن تخطو للقيام بالإصلاحات الضرورية والمؤلمة للوصول إلى صيغة الأحزاب المحافظة. وهذه الحاجة إلى الإصلاح مطلب يشمل كافة التشكيلات السياسية السورية في المعارضة. وفي نفس الوقت، هناك تراجع وتقوقع في حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى مواقع بعيدة جدا أن تجعله قدوة للأحزاب الإسلامية الراغبة في التجديد كما كان عليه الحال في الفترة 2002-2012.
بالرغم من التعددية في منظومة الإسلام السياسي اليوم، ولكن ما زالت أغلب التشكيلات السياسية الإسلامية بعيدة عن صيغة الأحزاب المحافظة، وهذا يعود إلى التمسك بالمرجعية الإسلامية المعطلة للسيادة الشعبية، ولإنتاج جمعية وطنية تمتلك الحق الكامل في إنتاج المراسيم والقرارات التي تتطلبها المصلحة العمومية.
طبيعة الدولة السورية وعلاقتها بالأديان
طبيعة الدولة، تتعلق بصورة كبيرة بطبيعة النظام. في النظام الديموقراطي، السلطة التنفيذية من الرأس إلى الهرم، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، هم كلهم في خدمة الدولة ومؤسساتها، والدولة ومؤسساتها في خدمة الصالح العام أو المصلحة العمومية، وهذه الأخيرة تصب في مصلحة عموم المواطنين. لذلك سميت الجمهورية باللاتينية (res publica=la chose publique) أي الشيء العام. ينعكس هذا الهرم في الدولة الشمولية، لتصبح الدولة ومؤسساتها في خدمة السلطة، وتختلط المصلحة العمومية بالمصالح الخاصة للنخبة المتحكمة بالسلطة، ويصبح المواطنون مواطنون بالاسم، وبالفعل أقنان في خدمة الإقطاعي الكبير، من دون حقوق ولا سقف قانوني يحميهم.
الدولة من طبيعتها العمومية السيادة، أي أن تسود بقوانينها في إقليم معين، وعلى شعب ما، لذلك أي خلط بين الدين والدولة لن يكون لصالح المواطنين بل على حساب حرياتهم، من هنا يجب تنظيم الفصل بين السلطتين، السياسية والدينية، أو السلطة الدينية والسلطة المدنية كما يقول فرح أنطون في كتابه ابن رشد وفلسفته (مع ردود الأستاذ على الجامعة في ست مقالات، وأجوبة الجامعة في ست مقالات أيضا. الإسكندرية في 01 يناير/كانون الثاني سنة 1903، منشورات مجلة الجامعة لصاحبها فرح أنطون، والتي كانت تصدر في الإسكندرية). إن العلاقة بين الدين والدولة، والدين والسياسة، بين الفصل والوصل، مواضيع شائكة خاضت فيها الثقافة العربية باكرا منذ محاورة الشيخ محمد عبده والمفكر الحداثي فرح أنطون (1902 ـ 1903)، وما زالت إلى اليوم من دون حلول مرضية، ولا ننسى أن هذا النقاش أودى بحياة الشهيد فرج فودة عام 1992 بعد المناظرة الشهيرة مع الطرف الإسلاموي، وكذلك إلى محاكمة العديد من المفكرين العرب. ويبدو أن العقدة الأساسية اليوم تكمن ـ كما قلنا ـ في مفهوم المرجعية الإسلامية، حيث لا تقدّم يذكر في هذا الموضوع، بالرغم من بعض الاجتهادات الجريئة من طرف مفكرين يحسبون على الطرف الإسلامي أمثال المغربي محمد جبرون والسوري لؤي صافي، الذين قالوا إن الدولة التي ترتئيها قيم الإسلام في القرآن السياسي ليست بحاجة للإصرار على المرجعية الإسلامية، ويكفي الرجوع إلى القيم الإسلامية العليا، ولكن ما زالت هذه الاجتهادات الجريئة بعيدا عن تشكل الرأي الغالب في الأوساط الإسلامية والإسلاموية، بالإضافة إلى المسألة الأخرى الشائكة، أي تطبيق الشريعة الإسلامية.
يبقى مطلب العلمانية (فصلية أم تمييزية) مطلب أقلوي يخص فئة الحداثيين، ولكن لا يعني ذلك التخلي عنه، ولا أيضا التشبث به، بل محاولة الدفع ما أمكن نحو صيغة تبتعد عن المطبات الدستورية الكبرى، مثل دين الدولة أو مرجعية الشريعة في التشريع، وذلك باعتماد صيغ تحيل إلى القيم الإسلامية العليا أو إلى مقاصد الشريعة، ولا تلجأ إلى المعيارية المكبلة في الرجوع إلى الشريعة الإسلامية.
خاتمة
يقول المفكر السوري ياسين الحاج صالح في آخر مقالة له (أربع سوريات لا تصلح خطابا وبنية، القدس العربي، 23/03/2023)، أن هناك أربع تجارب في تاريخ سورية قد فشلت: سورية العربية (1920-1970)، سورية الأسدية (1970-2011)، سورية الإسلامية (ابتداءً من 2013)، وأخيرا سورية القسدية (اعتباراً من 2014)، كونها كلها «مختلة بنيوياً وتحمل عوامل تفجرها في داخلها… ليس هناك حلول خطابية لمشكلات بنيوية، الحلول بنيوية، وعنوانها سوريا كدولة للسوريين على قدم المساواة ودون تمييز»، وهذه هي سورية المستقبل التي نسعى إليها، تتبنى النظام الديموقراطي والهوية الوطنية السورية.