نحن وغورباتشيف وتركته
القدس العربي: 2022/9/8
حين أطلق الزعيم السوفييتي الراحل ميخائيل غورباتشيف برنامجه الطموح القائم على دعامتي إعادة البناء (بيروسترويكا) والشفافية (غلاسنوست) كنا، مجموعة من الشيوعيين المعارضين لنظام الأسد، معتقلين في السجن بلا أحكام قضائية، أي لفترة غير محددة. وكانت ظروف السجن، في تلك الفترة تتيح لنا شيئاً من الاطلاع على الصحف المحلية وبعض المنشورات السوفييتية كمجلتي «أنباء موسكو» و«سبوتنيك». كانت هاتان المجلتان من النوع الدعائي الرخيص، شكلاً ومحتوىً، فلم تحظيا بأي اهتمام أو احترام من قبلنا في السنوات السابقة على الاعتقال، ولكن تغير الحال مع التغيرات العاصفة في العاصمة موسكو، فأخذتا تنشران مقالات انتقادية للمراحل السابقة، وضمناً للنظام الاشتراكي ولدور الحزب الشيوعي في قيادة البلاد.
كشيوعيين لنا وجهات نظر نقدية للنظام السوفييتي، وبخاصة في مجال غياب الحريات، شكل «الغلاسنوست» أفق أمل في تغيير النظام الاشتراكي نحو الأفضل، أما إعادة البناء التي اهتمت بصورة رئيسية بإصلاح النظام الاقتصادي فقد شكلت لغزاً محيراً لا نفهمه بعدتنا الأيديولوجية المتواضعة، الماركسية ـ اللينينية. ترى هل ستتمكن القيادة السوفييتية الجديدة من إنعاش الاقتصاد بالحفاظ على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، أم سيتم التحول إلى اقتصاد السوق وخصخصة الملكية كلياً أو جزئياً؟ وهو ما يعني في نهاية المطاف التخلي عن النظام الاشتراكي.
وترافقت التغييرات المذكورة مع تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية أيضاً، هي التي حظيت بإجماعنا حول القلق من مبادرات غورباتشيف الجريئة تجاه الغرب الرأسمالي. صحيح أن معاهدة التخلص من قسم مهم من الأسلحة النووية بصورة متبادلة مع الولايات المتحدة كانت تطوراً إيجابياً، لكن مجمل هذه السياسة الخارجية بدت لمعظمنا نوعاً من الاستسلام أمام «العدو الامبريالي». سيتطلب الأمر سنوات إضافية لاستيعاب كل آثار التحولات التي أطلقها غورباتشيف، ليس فقط على الاتحاد السوفييتي نفسه الذي سرعان ما بدأ يتفكك، ولا على دول أوروبا الشرقية التي انطلقت فيها ثورات الحرية بدءً من 1989، بل أيضاً على الحركة الشيوعية في العالم بأسره، وضمناً «النظرية الماركسية» التي أصبحت موضوعاً لنقاشات حارة في مختلف البلدان.
وهكذا انضاف إلى عزلتنا في السجن المديد غير المحدد بسقف زمني، «يتم أيديولوجي» موجع. فقد بات علينا أن نرمي وراءنا تصوراً سياسياً للعالم قائماً على انقسامه بين «قوى الثورة» (وتضم منظومة الدول الاشتراكية، والطبقة العاملة في الدول الرأسمالية، وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث) الممثلة للخير المطلق، وقوى الثورة المضادة الممثلة للشر المطلق، وعلى «حتمية» انتصار الاشتراكية على الرأسمالية «في نهاية المطاف» (ما يشبه تصور الآخرة لدى المؤمنين). فقد اتضح أن الجبروت العسكري للاتحاد السوفييتي أخفى تحته اقتصاداً يشبه اقتصادات الدول النامية، قائماً على ريع الموارد الطبيعية، وأن البيروقراطية الحزبية الثقيلة كانت عائقاً أمام أي تطور اقتصادي أو تكنولوجي، فضلاً عن النفقات الخارجية الهائلة على دول وحركات سياسية في إطار الحرب الباردة، كانت نتيجتها إفقاراً مهيناً للشعوب السوفييتية. وكانت تلك الأموال تذهب إلى أنظمة قمعية فاسدة كما في سوريا وليبيا والعراق ومصر قبل انقلاب أنور السادات على ظهيره السوفييتي، أو تبذر على حروب فاشلة كالحرب في أفغانستان.
كان ربيع موسكو الذي أطلقه غورباتشيف قصيراً جداً، سرعان ما تحول إلى حالة من الفوضى التامة، الانقلاب العسكري الفاشل في 1990، تلاه صعود بوريس يلتسين إلى السلطة، وتفككت الإمبراطورية السوفييتية بسرعة، وأطاحت الثورات السلمية بالشيوعيين في بلدان أوروبا الشرقية كأحجار الدمينو. وبدلاً من إضفاء طابع إنساني تحرري على النظام الاشتراكي، كما أراد غورباتشيف، وتمنينا نحن، استولت نخبة الأجهزة القمعية والبيروقراطية الشيوعية على مفاصل الاقتصاد فنهبته بشراهة، أما الحريات التي أطلقها «الغلاسنوست» والديمقراطية السياسية التي حلت محل شمولية الحكم الشيوعي، فقد جاء فلاديمير بوتين ليلغيهما عملياً. وبدلاً من الحرب الباردة التي أعلن غورباتشيف عن إنهائها، جاءت الطموحات التوسعية لبوتين لتطلق حرباً باردة جديدة.
أقام نظام حافظ الأسد تحالفاً استراتيجياً مع الاتحاد السوفييتي تمثل في توقيع «معاهدة الصداقة والتعاون» في العام 1981 حين كان ليونيد بريجنيف على رأس السلطة في موسكو. أتاح هذا التحالف للأسد مصدراً ثابتاً للسلاح بلا مقابل تقريباً، فقد كان ثمن الأسلحة يسجل ديوناً طويلة الأجل لا يسدد منها شيئاً، إضافة إلى مساعدات اقتصادية. كما أتاح له غطاءً سياسياً لقمع الشيوعيين إلى جانب الإسلاميين والقوميين والأحزاب الكردية.
حين بدأ التحول السوفييتي تيتم نظام الأسد أيضاً، فكانت مشاركته العسكرية الرمزية في حرب تحرير الكويت، 1991، نوعاً من تقديم أوراق اعتماده لدى واشنطن، سمح له مقابلها بقمع تمرد ميشيل عون في لبنان. لكن أكثر ما أقلق الأسد هو سقوط نظام تشاوشيسكو في رومانيا بتلك الطريقة الدموية المعروفة. فبعده مباشرةً أطل الأسد في خطاب أطلق فيه وعوداً «إصلاحية» غامضة، وكنتيجة مباشرة علينا، نحن المعتقلين السياسيين، أطلق سراح بضع مئات من المعتقلين، وحوّل الآلاف المتبقية إلى محكمة أمن الدولة التي أصدرت أحكاماً تضمن بقاءهم في السجن سنوات إضافية، وفي غضون ذلك سمح للمرة الأولى بحضور ممثلين عن منظمات حقوقية دولية لبعض جلسات تلك المحاكمات.
تجدد تحالف النظام مع روسيا بعد انطلاق الثورة على نظام بشار الأسد في العام 2011، فحماه بوتين في مجلس الأمن باستخدام حق النقض كلما طرح مشروع قرار يضيّق على النظام، ثم تدخل عسكرياً منذ نهاية أيلول 2015 فحماه من السقوط ومن مفاعيل القرار 2254 الذي يدعو إلى انتقال سياسي.
من السهل إطلاق أحكام على غورباتشيف من نوع أنه أطلق مسار تفكك الدولة السوفييتية وإضعاف روسيا أو إنهاء الحلم الاشتراكي.. ولكن يحسب له أنه أنهى نظاماً استثنائياً غير قابل للحياة في بلده وفي البلدان الأخرى التي كان يحكمها الشيوعيون، ولم تؤد نواياه الطيبة إلى ما كان يصبو إليه.