حول احتمالات توغل عسكري تركي جديد في الأراضي السورية
القدس العربي: 2022/5/26
بخلاف سوابقها، تبدو احتمالات توغل تركي جديد في الأراضي السورية مرتبطة بعوامل محدِّدة أكثر تنوعاً وتعقيداً. فإضافة إلى موقفي كل من موسكو وواشنطن بصورة مجردة، ثمة عوامل ترتبط بمتغيرات كبيرة جرت وتجري في الآونة الأخيرة أهمها الحرب الروسية على أوكرانيا وما أدت إليه من تفاعلات دولية وإقليمية لا بد أن تؤثر جميعاً على قرار أنقرة بصدد «عملية عسكرية» جديدة أعطى أردوغان إشارتها يوم الاثنين الماضي.
ولم يتأخر الرد الأمريكي الأولي في الصدور، فقال المتحدث باسم الخارجية نيد برايس إن من شأن العملية المفترضة أن «تهدد استقرار المنطقة وتلحق الضرر بجهود التحالف في حربها على داعش». في حين لم يصدر بعد أي تعليق رسمي من موسكو على تصريحات الرئيس التركي. نعرف أن روسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية وضعتا حداً لتقدم الجيش التركي في الجيب الممتد بين تل أبيض ورأس العين في ربيع العام 2019، بعدما غضتا النظر عن النتائج الأولى للغزو.
ولم يكتف الرئيس التركي بحديث عمومي عن العملية المفترضة، بل أعلن أن الموضوع سيناقش في اجتماع مجلس الأمن القومي الذي من المتوقع أن ينعقد اليوم الخميس 26 أيار/مايو، وأن العملية ستبدأ ما إن تنتهي المؤسسات العسكرية والأمنية من وضع خططها وتقييماتها، وهو ما أشعل اهتمام وسائل الإعلام وإطلاق شتى أنواع الاحتمالات والمخاوف في الرأي العام الكردي والسوري.
على رغم «المناوشات» المستمرة منذ أشهر بين كل من تركيا وتوابعها من الفصائل السورية المسلحة من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة ثانية، في أكثر من منطقة، فإن المعلومات الواردة من المنطقة لا تشير إلى أي حشود عسكرية تركية أو للفصائل، مقابل ارتفاع منسوب القلق لدى السكان المدنيين من تبعات حرب جديدة محتملة.
الورقة الجديدة التي وقعت «من السماء» في يد أنقرة هي طلب كل من السويد وفنلندا الانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي. ويقتضي ميثاق الحلف موافقة جميع الدول الأعضاء ليتسنى إدخال أعضاء جدد، أي أن كل دولة من الدول الأعضاء تملك حق النقض (الفيتو) على المرشحين للعضوية، وقد أعلنت تركيا على لسان كل من رئيسها ووزير خارجيتها شروطاً لقبولها بانضمام الدولتين الخائفتين من الطموحات التوسعية لفلاديمير بوتين. يمكن تلخيص هذه الشروط بتوقف الدولتين عن مساندة حزب العمال الكردستاني وتفريعاته، ورفع الحظر المفروض على تركيا في مبيعات السلاح بسبب التوغلات التركية في مناطق كانت تحت سيطرة القوات الكردية.
والحال أنه لا علاقة لفنلندا بالاتهام التركي الأول، في حين أن السويد تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية. لكن لأنقرة رأياً آخر، فهي تعتبر كلاً من حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية جميعاً منظمات إرهابية، وتريد من الدولتين مشاركتها في هذا الحكم، على رغم أنها فشلت في إقناع أي دولة بذلك. وحده نظام بشار الأسد يشاركها في هذا التوصيف.
أضف إلى ذلك أن لحزب الاتحاد الديمقراطي مكتبا تمثيليا في موسكو، وتدعم واشنطن قوات سوريا الديمقراطية بالمال والسلاح منذ سنوات في إطار الحرب على تنظيم «الدولة» (داعش). كذلك هناك عدة دول أوروبية أعضاء في حلف الأطلسي تقيم علاقات متنوعة مع «قسد» بينها فرنسا وألمانيا.
مجموع هذه الاعتبارات يدفع إلى الظن بأن الاعتراض التركي على عضوية كل من السويد وفنلندا في الناتو هو ورقة سياسية للضغط على الحلفاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لتحصيل تنازلات بشأن بعض موضوعات الخلاف. ولكن من جهة أخرى هو جزرة ممدودة لروسيا لتحصيل مكاسب معينة في توقيت عصيب بالنسبة لبوتين الذي يخوض حربه المصيرية في أوكرانيا.
فما هي المكاسب التي يسعى أردوغان إلى تحصيلها من واشنطن أو من موسكو، أو من كليهما معاً؟
بعد سنوات من الغياب عاد عنوان «المنطقة الآمنة» إلى الظهور على لسان الرئيس التركي في سياق حديثه عن العملية العسكرية الجديدة المحتملة، فقال إنها ستمتد إلى عمق ثلاثين كيلومتراً داخل الأراضي السورية، في تكرار للرقم الذي يتواتر كلما أعلنت تركيا نيتها في القيام بتوغل جديد. وهو ما يترافق مع الحديث عن إعادة قسم من اللاجئين السوريين لتوطينهم هناك، الأمر الذي احتل في الأسابيع القليلة الماضية عناوين الأخبار والمناقشات الداخلية في تركيا.
يمكن القول إذن أن هذا هو «العرض التركي» مقابل الموافقة على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، أي السماح للجيش التركي بالتوغل داخل الأراضي السورية وصولاً إلى الطريق الدولي M 5، وما يعنيه ذلك من إبعاد قوات سوريا الديمقراطية ومن تهجير محتمل للسكان، تمهيداً لتوطين قسم من اللاجئين السوريين في تركيا بدلاً منهم.
رفضت واشنطن العرض كما رأينا في تصريح الخارجية، ولكن هل يصل هذا الرفض حدود الرد العملي على أي غزو تركي أحادي محتمل؟ هذا ما لا يمكن التكهن به، وبخاصة في غياب قنوات دبلوماسية نشطة بين واشنطن وانقرة. أما موسكو الغارقة في همها الأوكراني فقد يغريها تمسك تركيا بورقة الفيتو بخصوص ضم فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، فتغض النظر عن الطموحات التركية. يبقى أن نشير إلى ارتباط الحديث مجدداً عن توغل تركي محتمل بالصراع الداخلي على السلطة في تركيا بمناسبة اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والنيابية، مبدئياً في حزيران/يونيو مع احتمال تقديم موعدها الذي سيتزايد إذا مضت تركيا بجدية في مشروع اجتياحها الجديد، على أمل من الحكومة في أن يغطي ذلك على الوضع الاقتصادي الذي يتفاقم باطراد.