روسيا ليست قلعة محاصرة
القدس العربي 10 آذار 2022
كثيراً ما يتم التعاطي مع الدعاوى البوتينية بشأن “تمدد حلف الناتو” الذي من شأنه “تهديد الأمن القومي لروسيا” وكأنها حقيقة غير خاضعة للجدل، بصرف النظر عن الاصطفاف مع روسيا في الحرب الأوكرانية أو ضدها. والحال أن هذه الدعاوى تشكل صلب “المظلومية الروسية” التي يريد نظام بوتين فرضها على الروس، والانطلاق منها لاختلاق مشروعية لطموحاته الإمبراطورية التوسعية.
فقبل كل شيء ليس “الغرب” أو الولايات المتحدة أو الحلف الأطلسي هو من “يتمدد” شرقاً كما يراه بوتين من منظوره، بل الدول المستقلة حديثاً عن الإمبراطورية السوفييتية هي التي “تتمدد” غرباً، والأصح أنها تريد الاحتماء بمظلة حلف الناتو من الجارة الجشعة روسيا. وبالتجربة الملموسة روسيا هي التي تتمدد في كل الاتجاهات لابتلاع “مجالها الحيوي” السابق واستعادته إلى بيت الطاعة، إضافة إلى احتلال مواطئ قدم بعيدة عن روسيا كما في سوريا وليبيا.
الأمر يتوقف على منظورنا للأمور: هل للدول التي استقلت بعد تفكك الإمبراطورية السوفييتية وشعوبها الحق في تقرير مصيرها أم لا؟ كانت الأيديولوجية الشيوعية هي مصدر شرعية تبعية تلك البلدان والشعوب لموسكو، وانتهت بتحللها. حتى الروس أنفسهم تم استعبادهم بواسطة تلك “الشرعية”، وبعدما تخلت الدولة عن أيديولوجيتها الشيوعية ونظامها الإشتراكي وانتقلت إلى النظام الرأسمالي لم تعد هناك ذرائع أيديولوجية أو اقتصادية للاستمرار في استعباد الروس، وبات النظام الديموقراطي والليبرالية السياسية مطلباً محقاً لهم. غير أن الطغم البيروقراطية التي حكمتهم، واستعبدت الشعوب المجاورة، طوال سبعين عاماً، سرعان ما سيطرت على مفاصل الاقتصاد وتحولت إلى “أوليغارشيات” مالية جشعة في ظل اقتصاد رأسمالي قائم على نهب موارد الدولة. إن نظرة سريعة على قوائم الشخصيات التي تعرضت لعقوبات من الاتحاد الأوروبي في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا تعطينا فكرة عن الطغمة الحاكمة في موسكو تحت غطاء زائف لـ”دولة” تريد الظهور بمظهر الدولة الحديثة، لكنها في الحقيقة لا تعدو كونها إئتلافا لأصحاب الثروات الخيالية يستعمرون الشعب الروسي حرفياً.
في تقرير نشره موقع بي بي سي باللغة العربية، جردة بعدد من أصحاب المليارات الذين يشكلون “القاعدة الاجتماعية” لنظام بوتين، نكتفي منهم ببعض الأسماء على سبيل المثال:
علي شير عثمانوف، تقدر ثروته بـ17.6 مليار دولار، يدير شركة يو إس إم هولدينغ التي تعمل في مجال التعدين والاتصالات، وبينها شركة ميغافون ثاني أكبر شركة اتصالات في روسيا، ويملك منزلاً في لندن بقيمة 65 مليون جنيه إسترليني، إضافة إلى ممتلكات أخرى خارج روسيا.
رومان أبراموفيتش، تقدر ثروته بـ12.4 مليار دولار، ويملك منزلاً في لندن تبلغ قيمته 150 مليون جنيه إسترليني، ويحاول بيع نادي تشيلسي مقابل 3 مليارات جنيه إسترليني. إضافة إلى يخوت فاخرة وعقارات في أماكن مختلفة من العالم، جنى ثروته في عهد بوريس يلتسين.
أوليغ ديريباسكا، تقدر ثروته الحالية بـ3 مليارات دولار، لكنه كان يملك 28 ملياراً حين وصل بوتين إلى السلطة. هناك شكوك حول علاقاته بتبييض الأموال والجريمة المنظمة، خسر الكثير من ثروته خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
إيغور سيشين، يدير شركة روزنفت، إحدى أكبر شركات انتاج النفط الخام في العالم، وهو أحد مستشاري بوتين المقربين، حجم ثروته غير معروف.
هذه النخبة الفاسدة اهتمت، خلال عقود ما بعد الاتحاد السوفييتي، بتنمية ثرواتها العائلية الفاحشة، لا بتطوير الاقتصاد الروسي والتكنولوجيا الصناعية كما يجدر بنخبة نظام ينطلق من مصالح قومية
أما بوتين نفسه فحجم ثروته غير معروف أيضاً، وهناك تقديرات متباينة لا يمكن التأكد منها تتراوح بين 70-200 مليار دولار. وهناك قصر فخم يسمى “قصر بوتين” كلف بناؤه مليار دولار، ويخت باسم “غريسفولد” وطائرات بجناحين وأخرى مروحية، يعتقد أنها تشكل جزءًا صغيراً من ثروته السرية.
هذه هي النخبة فاحشة الثراء والفاسدة التي تخشى على الأمن القومي لروسيا من “تمدد” الحلف الأطلسي شرقاً، وتبرر بذلك غزوها لأوكرانيا.
إنها نخبة مندمجة في العولمة الليبرالية، مصالحها متشابكة مع أوروبا والولايات المتحدة أكثر مما مع الصين. ومع ذلك تتصرف وكأنها دولة شيوعية معرضة لخطر “التطويق الامبريالي”!
هذه النخبة الفاسدة اهتمت، خلال عقود ما بعد الاتحاد السوفييتي، بتنمية ثرواتها العائلية الفاحشة، لا بتطوير الاقتصاد الروسي والتكنولوجيا الصناعية كما يجدر بنخبة نظام ينطلق من مصالح قومية. بدلاً من ذلك يتلخص برنامج بوتين “القومي” في الاستقواء على الدول الصغيرة التي استقلت عن الإمبراطورية البائدة، بغزوها وتركيعها وفرض الاستسلام عليها. هذا مفهوم إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان الاقتصاد الروسي هو اقتصاد ريعي يعتمد بصورة رئيسية على تصدير النفط والغاز وثروات طبيعية أخرى.
لا الاقتصاد الروسي يقدم نموذجاً واعداً، ولا نظام بوتين الدكتاتوري يقدم نموذجاً جذاباً يمكن بواسطته استقطاب الدول الصغيرة المحيطة بروسيا. فهذه الدول تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كنموذج ليبرالي جذاب واعد بالرفاه، وإلى حلف الناتو للاحتماء من جشع بوتين الامبراطوري الأجوف. هذه هي القصة باختصار.
من ناحية أخرى، يبدو أن ورطة بوتين بغزو أوكرانيا من المحتمل أن تكلفه الكثير، وقد كلفته إلى الآن عزلة دولية خانقة، وعقوبات اقتصادية مؤلمة، ونزعة عداء لروسيا بلغت أبعاداً مكارثية. كما أطلق الغزو تداعيات في الغرب غير سارة من وجهة نظر “الأمن القومي” لروسيا: عودة ألمانيا إلى التسلح، طلبات من دول جديدة للانضمام إلى حلف الناتو أبرزها فنلندا المتاخمة لروسيا، تماسك لحمة الحلف الأطلسي تحت قيادة واشنطن بعد عقود من فتور الهمة والتراخي. كل هذه التطورات هي أكبر بكثير مما زعمت روسيا من مخاوف بشأن انضمام أوكرانيا المفترض إلى الحلف. أي ان الغزو أدى، من حيث المبدأ فقط، إلى عكس النتائج التي أرادها بوتين من غزوه لأوكرانيا.
أما التلويح بالخيار النووي فهو دليل ضعف أكثر من كونه دليل قوة. يمكن الخوف من زعيم عقائدي مجنون يملك السلاح النووي، أما شخص فاسد يملك ثروات فاحشة كبوتين فلا يخشى منه اللجوء إلى خيارات شمشونية من هذا النوع.
بالمقابل لا يملك بوتين ترف التراجع عن اندفاعه الأحمق، لذلك فمن المحتمل أن يواصل سياسة الأرض المحروقة في أوكرانيا كما فعل في الشيشان وسوريا، لكن الغرب لن يسمح له، كما يبدو إلى الآن، بتحقيق انتصار من شأنه تكريسه “بلطجياً عالمياً”.
يبقى السؤال: إلى أي مدى يستطيع بوتين المضي في عزل روسيا عن العالم؟ وهل تسمح له الأوليغارشيات ذات المصالح المتشابكة مع العالم بالاستمرار في جنونه؟ هذا على فرض إخراج الشعب الروسي من المعادلة من خلال النجاح في قمع كل معارضي الغزو، وهي فرضية لا يمكن الركون إليها لفترة طويلة.