عن حكاية السّجين والسّجن والسّجان في “شراقة” سعاد قطناني

img

النهار العربي 8 كانون الثاني 2022
لعل أول كتاب اطّلعت عليه عن حكايات المنسيين أو المغيبين في السجون، كان بعنوان: “الأقدام العارية” (دار ابن خلدون، بيروت، 1978)، الذي سجل شهادة شخصية لكاتبه طاهر عبد الحكيم الذي سُجن خمس سنوات في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مع مجموعة من الشخصيات المحسوبة على الحزب الشيوعي المصري، الذي حل نفسه في ما بعد.
في ذلك الكتاب حاول الكاتب أن يقدم، أو أن يصوّر، حالة السجن والسجان والسجين في مصر في تلك الفترة، مع كل ما يحمله ذلك من معاناة، قوامها القهر والألم والعيش في العدم. بعد ذلك قرأت للقاص يوسف إدريس الذي حكى شهادته عن سجنه وعن سجانيه، بطباعهم وأمزجتهم وسحناتهم، في عديد من القصص التي كتبها. بيد أن رواية “السجينة” (1999)، وهي شهادة مليكة أوفقير، عن سجنها المغربي لعشرين عاماً (وعمرها 18 سنة)، كانت أكثر إيلاماً ومأسوية (كتبتها عنها ميشيل إيفوسي).
لكن شهادة، أو رواية، “القوقعة: يوميات متلصص” لـ مصطفى خليفة (دار الآداب، بيروت، 2008)، التي ضمنها شهادته الشخصية عن سجنه لـ13 عاماً، إثر عودته من باريس إلى دمشق، كمعارض سياسي، كانت أكثر هولاً ورعباً ومأسوية من كل ما قرأته عن شهادات السجن، أو روايات تدور حوله، لا سيما أنني عرفت عدداً من أبطالها، كأصدقاء، كما عرفت منهم حكاياتهم المؤلمة، إلى درجة لا يمكن معها تصور ما يحصل أو تصديقه.
هكذا يمكنني الاعتقاد أن تلك الرواية أو الشهادة، هي المؤسسة في نوعها، لما قبلها وما بعدها، لأن صاحبها برع في تصوير هول السجن السوري، وحال السجناء الذين لم يعد لحياتهم أو لذواتهم أي معنى، لا سيما أن ذلك التوحش كان غاية في ذاته، فيما يقارب مفهوم “تفاهة الشر” الذي تحدثت عنه حنة أرندت في مقاربتها لمعتقلات النازية وسجانيها، الذين يتفانون بالقيام بوظيفتهم الوحشية ـ الإجرامية بطريقة روتينية.
في الغضون، ولخصوصية السجن السوري،أو فرادته، باتت ثمة مكتبة كاملة من الشهادات والروايات، عن السجن وما حوله، مثلاً، روايات هبة الدباغ: «خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في السجون»، وسمير قنوع: «أنشودة البرد والحرية»، ومفيد نجم: «أجنحة في الزنزانة»، وراتب شعبو: «ماذا وراء هذه الجدران»، وعلي أبو دهن: “عائد من جهنم”، وحسيبة عبد الرحمن: “الشرنقة”، ومي الحافظ: “عينك على السفينة”، وروزا ياسين الحسن: “نيغاتيف”، وسميرة المسالمة: “نفق الذل”، وغسان الجباعي: “قهوة الجنرال”، وسمر يزبك “تقاطع نيران”، وكذا شهادات فرج بيرقدار: «خيانات اللغة والصمت»، وياسين الحاج صالح: «بالخلاص يا شباب”، وسليم حمادة: “شاهد ومشهود” عن سجن تدمر، ومحمد ديبو: “كمن يشهد موته”، ومحمد برو: “ناج من المقصلة”.
في هذا السياق، للحكاية عن المنسيين أو المغيبين الذين يعيشون في الجحيم الذي يمثله السجن السوري، لا سيما مع حال إنكار هذه الحكايات، ومحوها، يأتي كتاب الإعلامية سعاد القطناني بعنوان لافت هو: “الشراقة” (عن دار موزاييك ـ إسطنبول، 370 ص)، وهي الكوة الحديدية الصماء التي تتوسط أبواب الزنازين، والتي تفتح من الخارج، للشتم وإلقاء الأوامر، وتقديم ما يسمى طعاماً، وهي الكوة التي يحاول السجناء التلصص على ما في خارج زنازينهم من خلال تشققاتها، لكنها في هذا العنوان كأنها تضعنا نحن في سجنها كي نرى (من خلال الشراقة/الكتاب) حال السجناء في هذا الهول المخيف، والقاتل.
أهمية هذا الكتاب /الشهادة، أن مقدمته كاتبة وإعلامية سبق لها أن قابلت هؤلاء السجناء وحاورتهم، وقدمت معاناتهم في برنامج أعدته للتلفزيون بعنوان: “يا حرية” في نحو ستين حلقة، وهي في تمكنها من السرد الروائي، الأدبي، استطاعت أن تقدم صورة حية عن السجناء، مشاعرهم، وآلامهم، وآمالهم، رغم صعوبة تلك المشاعر وثقلها.
في الكتاب، تحدثت قطناني بمشاعر من الألم والتعاطف عن عدد ممن قابلتهم في برنامجها “يا حرية”، مثل مصطفى خليفة، صاحب رواية “القوقعة”، ومحمد برو صاحب كتاب “ناج من المقصلة”، وفدوى محمود وهي سجينة سابقة، ولها زوج وابن في السجن، ورياض أولر وهو تركي (اعتقل في سوريا عام 1996، وبقي في السجن 21 عاماً هو وزوجته)، ومالك داغستاني وتهامة معروف وحسن النيفي وإبراهيم بيرقدار وعمر الشغري ورزان محمد وباسل هيلم ونظمي محمد.
الحكاية الأولى في الكتاب، كانت جد مؤثرة ومؤلمة ومؤسية، وذات دلالات كثيرة، وهي عن فدوى محمود التي اعتقل زوجها عبد العزيز الخير (الشخصية السورية المعارضة والمعروفة وهو طبيب) عام 2012، في المطار إبان عودته من زيارة للصين في إطار جهوده لإيجاد حل سياسي في سوريا، علماً أنه كان معتقلاً سابقاً، لعشرة أعوام (1995 ـ 2005)، كما أنها أم لمعتقل شاب، وهي ذاتها اعتقلت أعواماً عدة عام 1992، وفوق كل ذلك فقد كان أخوها رئيساً لشعبة التحقيق في أحد فروع الأمن الكثيرة، وكان المسؤول عن الدورية لحظة اعتقالها.

حكاية رياض أولر مؤثرة جداً، فهي عن الظلم المطلق، فهو مواطن تركي، اعتقل في زيارة عادية لسوريا (1996) بشبهات عدة، وهو في مطلع شبابه، وبقي 21 سنة في السجن يعاني أهواله، وزيادة في الألم اعتقلت معه زوجته الشابة ست سنوات. في شهادته بدا أن رياض ما زال بعد عقدين من الزمن يعيش كابوس الاعتقال، “يضحك بين الحين والآخر بسخرية مريرة… يروي حكايا أمكنة السجن، ولربما كل مكان يروي حكاية، ليست بالضرورة حكايته، بل حكاية المنسيين خلف القضبان، أو الذين قضوا تحت التعذيب”.
في شهادة محمد برو (اعتقل 1980 ـ 1988 وعمره 17 عاماً) تحاول سعاد أن تنقل مشاعر الراوي، كأنها تسمع دقات قلبه، وتحس ألمه، إذ تكتب محمد “يعود طفلاً يبكي رفاقه، ويعود الألم طازجاً… سكت الكلام، يتنهد محمد ويبكي، يمسح دموعه وكأنه ذلك الطفل الذي تركه في تدمر، ويتنهد ثم يكمل… التعذيب في سجن تدمر ليس له سبب سوى التعذيب… هو تعذيب يومي… ليس له سقف… كان الرعب والقلق والخوف جزءاً أساسياً وآلية من آليات التعذيب… كنت أحلم أن أموت إما بحكم إعدام أو في أثناء التعذيب… صار الخوف جزءاً من يومياتنا، حتى حين تركنا المعتقل فالمعتقل لم يتركنا، صار معششاً في دواخلنا… أحلم بكل بساطة أن أعيش بلا خوف”. وللعلم فقد سجل محمد برو شهادته في كتاب أصدره بعنوان: “ناج من المقصلة”.
صاحب الشهادة/الرواية الشهيرة: “القوقعة”، مصطفى خليفة، الذي اعتقل في الفترة من (1981ـ1994)، والذي بات كتابه الصادم من أشهر الكتب في أدب السجون، الذي تحدث عن تفاصيل حياة السجين، والسجن، والسجان، بدقائقها، بما في كل ذلك من مشاعر تختزن كثيراً من القلق والخوف والألم، في حياة لم يعد لها معنى، وفي عذاب لا حدود له، علماً أنه اعتقل هو وزوجته، يقول: “أطلق سراحنا من الفرع الذي طلب اعتقالنا… لم تثبت علينا أي تهمة ولم تصدر بحقنا أي أحكام، بعد ثلاثة عشر عاماً”.
حكاية عمر الشغري معجونة بالوجع فقد اعتقل وهو صغير (تولد 1995 من قرية البيضا قرب بانياس) وخضع لشتى صنوف العذاب، وشهادته تعتبر بحد ذاتها بمثابة رواية عن السجن السوري بكل تفاصيله المرعبة، والمهولة. وقبل فترة ظهر عمر الشغري في مناقشات مجلس الأمن الدولي (كانون الأول/ديسمبر الماضي)، كأفضل متحدث عن حكايات السوريين وآلامهم وآمالهم.
ثمة حكايات أخرى لـ باسل هيلم، مالك داغستاني، رزان محمد حنطاية، نظمي محمد، حسن النيقي، تهامة معروف، وهي جزء من حيوات عشرات ألوف السوريين الذين عاشوا أهوال تلك السجون، سجون العدم السوري.

يحسب لسعاد قطناني أنها أخذت تلك الحكايات، حكايات المظلومين المنسيين، الذين عاشوا في الموت، وافتقدوا، ليس الحرية فقط، بل الأمل، والحد الأدنى من الحياة الإنسانية، أيضاً، وأظهرتها للعلن، في محاولة لإنصاف هؤلاء، في محاولة لوضعنا أمام واقعنا إزاء نظام من البشاعة والخراب والرعب.
وعلى أي حال فهي مهمة صعبة، واجهت سعاد في برنامجها الشهير “يا حرية”، وها هي تصر على توثيق تلك الحكايات، أيضاً، في كتاب. تقول سعاد: “أثناء تدوين هذه الشهادات وكتابتها كحكاية ضمن كتاب… كان الألم يعود طازجاً وطرياً في روحي وكأني أسمع هذا الهول والوجع لأول مرة… لم أكن أتوقع أن أعود وأبكي وأنا أكتب الحكايات، لم أكن أتوقع أن يضيق صدري وأنا أصف الزنزانة وكأني أستعيد حسها عند المعتقل أو المعتقلة… في العمل التلفزيوني كان هناك ألم المستمع وألم الشاهد لأكون في الكتاب أنا الشاهد وأنا المستمع، أستعيد وقع الألم عندي وعنده”!
هكذا وضعتنا قطناني كلنا في “الشراقة” لأننا لم نكن نرى هؤلاء، أو لأننا سكتنا عن كل هذا الظلم، أو لأننا عجزنا عن إطلاق صيحة في وجهه، ولو مجرد صيحة.


الكاتب ماجد كيالي

ماجد كيالي

كاتب فلسطيني سوري

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة