القانون والدين والدولة في العالم العربي
الدين والقانون في مصر والعالم العربي حالة تاريخية قديمة قبل الأديان السماوية، والتحول التاريخي للمجتمعات الإسلامية متعددة الأديان إلى الإسلام. في العصور القديمة في مصر الفرعونية، وبلاد الرافدين -ميزوبوتاميا- كان الدين والقانون في حالة من التوافق والاندماج النسبي مع أوامر الحكام -أشباه الآلهة- على مثال لائحة حمورابي، وتصوراتهم للضبط الاجتماعي، من أعلى لأسفل الهرم الاجتماعي، وأيضا ثمة دور لا يمكن إغفاله للأعراف وأدوارها في التنظيم الاجتماعي لهذه المجتمعات، التي كان عنوانها الحضاري، القانون والدين. مع الاحتلال الروماني والحضارة الهيلنية، أثر الفكر القانوني الروماني على مفهوم القانون، فلسفيا و”نظريا”، وعلى وضع قواعده، وهو ما شكل نمط جديد من التقاليد والخبرات القانونية أكثر تقدما، وجعل القانون أكثر ارتباطا بالحكم، وتنظيم المجتمع!
لا شك أن مصر في المرحلة التاريخية القبطية كان نظام الزواج، والأسرة يتبع بعض القواعد الدينية المسيحية، والأحرى اللاهوت الأرثوذكسي، والتي تأثرت بعض قواعده بالتقاليد القانونية الفرعونية، والرومانية، التي ائتلف بعضها مع القواعد الدينية، واللاهوتية، والأعراف المصرية ومحمولاتها. وعلى صعيد تنظيم المعاملات المدنية/ المالية كانت ايضا القواعد العرفية، هي أساس تنظيم هذه العلاقات في البيع والشراء والملكية.. الخ.
مع دخول الإسلام إلى مصر، والبلدان العربية، استمرت التقاليد القانونية الموروثة وقواعدها، وخاصة الأعراف في التنظيم القانوني للعلاقات الاجتماعية لفترات تاريخية طويلة – وهو أمر موثق في العقود المدنية التي كانت تكتب باللغة الهيراطيقية – حتى مع تبلور القواعد القانونية لنظام الشريعة، التي تعتمد على عديد المصادر -القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، والعرف، والمصالح المرسلة.. الخ – ومن ثم أعطى ذلك حركية وتكيفاً مع حالات المجتمعات، وتقاليدها وظروفها المتغيرة. لا شك أن تطبيق نظام الشريعة القانوني، تأثر بظروف كل مجتمع وتركيباته، وتوجهات الولاة والحكام، وبعد ذلك الدول. المراحل التاريخية المختلفة لا تزال الدراسات التاريخية حول النظم القانونية العربية الفعلية محدودة وشحيحة تلك التي كانت سائدة قبل الاستعمار الغربي البريطاني، والفرنسي، والإيطالي. إلا أن الملاحظ دور الأعراف البارزة، والموروثات الخاصة بالحرف والصنائع في التنظيم القانوني للعلاقات بين الجمهور، وذلك فيما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وفي ظل تطبيق نظام الحدود والتعازير وفق مواقف الولاة والحكام والحالات التي تطبق فيها. استمرت حركية القواعد الكلية للشريعة في التطبيق، وخاصة في مجال المعاملات، وفي مجال نظام الأحوال الشخصية – الزواج والطلاق، والمواريث، وما يتفرع عنهما.
مع دولة محمد على، بدأ بعض الخروج عن نظام الشريعة في مجال الحدود، في مجال جرائم السرقة للمحصولات الزراعية، واستبدال العقوبة الحدودية بالنفي إلى فيزاأوغلى بالسودان، وتبنى مفهوم الاتفاق الجنائي نقلاً عن القانون الجنائي الفرنسي. تم إعادة بناء أجهزة إدارية جديدة لجهاز الدولة، مع تأسيس الجيش المصري مع إبراهيم باشا.
مع حكم إسماعيل باشا، تم أحداث تطويرات واسعة، مع حركة البعثات، وبدأت عمليات استعارة القوانين الغربية الحديثة، من خلال المصادر الإيطالية، والبلجيكية، والفرنسية – علي أيدي المحامي السكندري الإيطالي مانوري -، وذلك للتطبيق في المحاكم المختلطة، ثم في المحاكم الوطنية/ الأهلية. هذا التغير مرجعه دمج الاقتصاد المصري في النظام الرأسمالي الدولي من خلال تجارة القطن، على نحو تطلب أن تكون القوانين المصرية، في حالة توافق مع الأنظمة القانونية الغربية. من هنا بدأت بعض الانقطاع عن نظام الشريعة في المجال الجنائي، وفي المعاملات المدنية، وذلك الرغم من أن الشيخ خليفة المنياوي الأزهري قام بوضع تقنين مدني إسلامي، إلا أن هذا المشروع وضع جانبا على الرغم من أنه كان قد وضع على النسق الفرنسي للقانون المدني، ومرجع ذلك وضعية الاقتصاد المصري التابع للنظام الرأسمالي الدولي، وطبيعة توجهات إسماعيل باشا الفكرية والثقافية، وولعه بالنموذج الفرنسي، في عديد المجالات، وفي التخطيط العمراني، ونمط البناء.
مع تشكيل الجماعات السلفية، وجماعة الإخوان كانت مسألة القانون والشريعة أحد مطالبهم الأساسية طيلة القرن من المرحلة شبه الليبرالية، وحتى نظام يوليو 1952، وحتى الآن. كان الصراع بين القانون الحديث، ونظام الشريعة، أبرز علامات الصراع السياسي والاجتماعي، بين النظام السياسي، والطبقة السياسية الحاكمة، والجماعات الإسلامية السياسية، وغالبية علماء الأزهر، ودعاة الطرق وفق تعبير العميد طه حسين.
من الملاحظ أن غالب أنظمة القانون المصري، والقوانين العربية الأخرى، هي جزء من عمليات التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتكنولوجي. من ناحية أخرى غالب هذه الهندسات القانونية والاجتماعية لا تتنافي مع المبادئ الكلية للشريعة في مجال المعاملات المدنية -والاستثناءات محدودة جدا، اما قوانين التجارة، والصناعة، وغيرها هي أنظمة ارتبطت بتطورات الاقتصادات العربية، وتبعيتها للنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي.
قام عميد القانون المدني المصري والعربي عبدالرزاق السنهوري باستخدام المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، في نظرية سوء استعمال الحقوق في القانون المدني المصري، وأيضا كأحد مصادر هذا القانون.
نظم الأحوال الشخصية المصرية والعربية، اعتمدت على الشريعة الإسلامية، والشرائع المسيحية على اختلاف مذاهبها، وأيضا الشريعة اليهودية، وفق المذهبين داخلها.
تصاعد الصراع السياسي على القانون والدين في ظل حكم الرئيس السادات، في خلافاته السياسية مع الناصريين، والماركسيين، وبعض الليبراليين المستقلين، وتعاون مع جماعة الإخوان لفترة في مواجهة خصومه السياسيين.
تزايدت معدلات التوتر السياسي، مع تعديل نص المادة الثانية من دستور 1971، من “الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع” إلى المصدر الرئيسي”. هذا التعديل كان محاولة لتمرير رفع القيد عن مدد ولاية رئيس الجمهورية، من مدتين متتاليتين إلى مدد غير محددة.
لا شك أن ذلك أدى إلى تمسك الجماعات الإسلامية السياسية بضرورة التطبيق الكامل للشريعة، في كافة المجالات بقطع النظر عن توافق غالبُ هذه القوانين الحديثة والمبادئ الكلية للشريعة، ومع تحولات النظم الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية الحديثة، لأن هذه الجماعات استخدمت المادة الثانية من الدستور، سياسياً في مواجهة النظام السياسي والسلطة الحاكمة، وتوظيف هذا المطلب السياسي، في تحريض بعض القواعد الاجتماعية لهذه الجماعات ضد السلطة السياسية، وأجهزة الدولة، وأيضا في التجنيد الإيديولوجي، والتظيمي للإخوان المسلمين، أو للجماعات السلفية والجماعات الإسلامية الراديكالية على نحو أدى إلى توترات دينية، وإلى مشاكل طائفية عديدة.
لا شك أن إثارة الصراع بين الإسلام، وبين القانون الوضعي، كان من أبرز أدوات الجماعات الإسلامية في مواجهة النظام السياسي، وأجهزة الدولة، ومحاولة جحد ونفي الشرعية الدينية عنهم.
قامت هذه الجماعات السياسية الإسلامية، في ظل الصراع مع السلطة الحاكمة، وأجهزة الدولة، في التمدد داخل النظام الاجتماعي، في الأرياف والحضر المريف في المدن، من خلال التركيز على الترميز الديني للمجال العام من خلال نظام الزي، والعلامات الدينية، وفي اختراق بعض النقابات العامة.
أن التوظيف السياسي للدين في المجال القانوني، وفي الصراع السياسي مع السلطة الحاكمة -في مصر- أدي إلى المزيد من الجمود في الفكر القانوني المصري، والعربي، وانكسار وكمون الاتجاهات التي كانت تحاول تقديم جسور بين الفقه الإسلامي، وبين الفقه والنظريات القانونية الغربية، على الرغم من التغيرات الكبرى في النظم القانونية المقارنة، كنتاج للتطور العلمي، وفي مجال الأنظمة التكنولوجية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية.
من الملاحظ أيضا أن الضغوط السياسية الدينية على المؤسسات الدينية الرسمية وتوظيفها لصالح السلطة الحاكمة، أدى إلى هيمنة النزاعات النقلية المحافظة وسط غالبُ رجال الدين، على نحو أدى إلى تراجع الاتجاهات الاجتهادية في الفكر الديني، وانزواء الاتجاه التجديدي التاريخي الذي راده علماء الأزهر، منذ الإمام محمد عبده حتى مشايخ الأزهر الكبار، مولانا الشيخ محمد مصطفي المراغي، والشيخ محمود شلتوت الأمام الأكبر، وعبد المتعال الصعيدي، ومحمد عبدالله دراز وآخرين، وهو ما يحاوله الآن مولانا الإمام الأكبر د. أحمد الطيب. من الملاحظ أن الاقتصاد النيوليبرالي المسيطر عالميا يزيد من تعقيدات الأوضاع الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية في العالم العربي، فضلا عن مشاكل عمليات التحول إلى الذكاء الإصطناعي، وعالم الروبوتات، وكلها تحولات ستؤدي إلى تحديات ستواجه رجال الدين الرسميين في مهامهم ووظائفهم، وأيضا على مسألة العلاقة بين الدين والقانون في عالم يشهد تحولات ستمثل قطيعة مع الحياة والشرط الإنساني في ظل عالم في طريقه إلى مرحلة مابعد الإنسان.
المصدر: الأهرام