قانون الدولة وثقافة اللانظام والفوضى

img

نشأت القوانين، وتبلورت مع الحضارات القديمة، الفرعونية والصينية، وفي بلاد الرافدين – شريعة حمورابي – وتطورت مع القانون الروماني، ونظام الشريعة الإسلامية، والجذور الفلسفية والتاريخية التي تأسس عليها القانون الروماني، وتحول إلى المرجعية التاريخية، والفلسفية للنظم والثقافات القانونية الأوروبية الحديثة، التي تطورت في إطار الدول القومية مع نشأة الرأسمالية الأوروبية، والحركات القومية، وبناء الدولة الأمة، ثم مع الثورات الصناعية من الأولى إلى الرابعة مع تحولات فلسفية وسوسيولوجية، وثقافية إلا أن القانون الروماني لايزال الأساس والمصدر التاريخي لها.

عديد من الفلسفات والنظريات القانونية، أثرت وتأثرت بالقانون، ومنظوماته المتعددة وتعتبر فلسفة القانون فلسفة الفلسفة – وفق الفقيه المصري الكبير ثروت أنيس الأسيوطي – سواء القانون العام، والخاص، بل إن القانون الدولي، ومفاهيمه بعضها مستمد من التقاليد القانونية الحديثة ومواقع القوة في عالمنا، بقطع النظر عن تبلوره المعاصر، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية، وظهور التنظيم الدولي المعاصر، أياً كانت مثالبه وأعطابه وفاعليته، وتطبيقه بلا تحيّز في ضبط العلاقات بين الدول وأشخاص القانون الدولي العام وتطبيقه على أشخاص القانون الدولي كافة في مساواة.

مفهوم القانون، ومنظوماته المختلفة، وفلسفاته ترتكز على تكريس مفهوم النظام، لضبط العلاقات داخل المجتمع، وتنظيمها، في إطار الصراعات الاجتماعية والسياسية حول المصالح الاجتماعية والسياسية المتغيرة والمطلوب حمايتها من السلطة الحاكمة، والدفاع عنها، وحماية ما يطلق عليه النظام العام، والآداب العامة. المفهومان يتسمان بالعمومية الشديدة، والسيولة، والتغير في تفسيرهما من سلطات الدولة مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والثقافية. من ثم خضع هذان المفهومان القانونيان في تفسيرهما للسلطة السياسية الحاكمة – أياً كانت طبيعتها ديمقراطية أو استبدادية أو تسلطية – وأيضاً إلى التفسيرات القضائية في كل مرحلة من مراحل تطور هذه السلطات القضائية، ومدى استقلاليتها، في كل النظم السياسية أياً كانت طبيعتها، على نحو ما يظهره التباين بين القضاء الأوروبي والأمريكي وبين غالب السلطات القضائية العربية.

القانون كان صنّوَ النظام في كل مراحل تطوره التاريخي، في الحضارات القانونية القديمة الفرعونية، والصينية، وبلاد الرافدين – ميزوبوتاميا – والرومانية، حتى الدولة/الأمة في ظل التطورات في بنية الرأسمالية، والثورات الصناعية المتعاقبة. كان القانون ولايزال يرمي إلى الضبط الاجتماعي وإقرار شرعية النظام، وتنظيم الصراعات الاجتماعية، والأهم هو استقرار النظام في مواجهة الظواهر والسلوكيات الاجتماعية كافة الخارجة على قواعده، وذلك حماية للملكية العامة، والخاصة، وتحقيق الاستقرار للنظام وللسلطة السياسية الحاكمة – أياً كان شكلها وطبيعتها – ومن ثم يتم استخدام القوانين من السلطة الحاكمة من أجل تقنين بعض المصالح والقيم الاجتماعية، وأيضاً من أجل إحداث التغيير الاجتماعي المطلوب، ليتواكب مع تطورات الصناعة، والاقتصاد، والسياسة، وخاصة في ظل التحديث، والحداثة القانونية والسياسية والثقافية.

من هنا كان القانون هو ذروة التعبير والتجسيد لمفهوم النظام، وهو الذي يحدد معالمه، ويكرس ذلك في تفسيرات القضاء في كل دولة من الدول الحديثة، وما بعد بعدها، وإلى الآن.

إن تحديد النظام ومكوناته، وأجزائه، وعناصره تخضع للسلطة الحاكمة والقيم والتقاليد والأعراف، والدين في بعض الدول العربية والإسلامية. غالباً ما يكون النظام – مجموعة من العناصر التي تشكل كلا واحداً، وترتبط ببعضها بعضاً – تعبيراً عن تصورات وفلسفة قانونية، والثقافة السياسية السائدة، ومصالح وأفكار السلطة الحاكمة، ومصالحها وقواعدها الاجتماعية.

أحد أهداف أي نظام قانوني وسياسي واجتماعي، هو مواجهة القوى اللانظامية، وأشكال السلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المضادة للنظام، والأخطر الحيلولة دون أن تتحول إلى ظواهر اجتماعية، واسعة النطاق في مرحلة تاريخية ما، وتغدو حالة من الفوضى disorder وفقدان النظام، ومن ثم إلى تفكك الترابط بين قواعده القانونية والسياسية، والاجتماعية، والسلوكية، وعدم قدرة النظام والسلطة الحاكمة على فرض القوانين، ولا مبالاة المواطنين بها، والخضوع الطوعي لها، وأيضاً مراعاة فرض احترامها، بحيث يتحقق الأمن والسلامة، دونما خرق لها سواء عبر أعمال العنف وأشكالها سواء فردية أو جماعية أو منظمة من خلال جماعات مسلحة، أو من خلال تجاوز الأنظمة القانونية، عبر أشكال من السلوك الاجتماعي الجانح، كآليات الرشوة والفساد الإداري والسياسي داخل أجهزة الدولة والمواطنين…الخ!

عدم قدرة أي نظام سياسي أو قانوني أو اجتماعي أو اقتصادي على التعامل مع مصادر عدم التكامل والانضباط داخل النظام، والقوى والجماعات والأفراد التي تحرك للخروج على سراط النظام والقانون يؤدي إلى توسيع نطاق الفوضى.

هذا النمط من السلوكيات والأفعال يتمثل في إشاعة وممارسة القيم السلبية المضادة للنظام والقانون، من مثيل الإهمال وعدم العمل الجاد والكفؤ، والصالح العام، والانتماء الوطني العابر لكل الانقسامات الداخلية، والانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية والعشائرية في غالب المجتمعات العربية.. الخ، لاسيما في البلدان التي لم تتبلور فيها شرائط بناء وطنيات وأمم على المثالين المصري والمغربي التاريخيين. قيم اللانظام تتمثل أيضاً في الأثرة الشخصية السلبية، والأنامالية ضد قيم التعاضد والتضامن الاجتماعي، وغياب النزعة الغيرية، واللامبالاة، وانتهاك المال العام، وعدم الحفاظ عليه… الخ.

لا شك أن تراكم السلوكيات الاجتماعية المضادة للنظام العام، وقانون الدولة، وانتشارها على مدى زمني طويل، يؤدي إلى هيمنة ثقافة اللانظام والفوضى والاضطراب.

أن ثقافة الفوضى ناتجة عن الفجوات السوسيو – نفسية بين قانون الدولة، والنظام السياسي، ونخبته الحاكمة، وبين غالبية المواطنين، وخاصة القوى الاجتماعية الشعبية، والانحياز لمصالح طبقية محددة، على نحو ما نرى في عديد البلدان العربية، وهو ما أدى إلى تمدد ثقافة الفوضى، من خلال القيم السلبية المضادة لأحكام القانون، والسلوكيات الاجتماعية الجانحة الحاملة لهذه القيم المضادة.

تمدد الظواهر الاجتماعية للفوضى المضادة للقانون، والنظام أدت في بعض المجتمعات العربية إلى حالة اللانظام. ثمة سياسات وتقاليد دولتية عربية تحاول الضبط والسيطرة على غالبها، من خلال السياسات الأمنية، إلا أن فاعليتها نسبية، وتنطوي على مشكلات، بالنظر إلى الانفجار السكاني وكبر حجم المجتمع إزاء أجهزة الدولة، وعسر الحياة، وتفاقم المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، وانفصال بعض السياسات الأمنية عن السياسات الاجتماعية في ظل سيطرة فكر النيوليبرالية الاقتصادية واللامبالاة بانعكاساتها على الطبقات الشعبية المعسورة وما وراء خط الفقر.

لا شك أن شيوع النزعات الاستهلاكية المفرطة بين الشرائح الاجتماعية كافة، أدت إلى إنتاج الشخص المستهلك المفرط، الذي يعتبر وجوده الإنساني، وقيمه، وسعادته، مرتبطين بحجم استهلاكه من السلع، والخدمات على نحو أدى إلى تمدد السلوك الاستعراضي، وتحول الاستهلاك المكثف إلى قيمة مركزية في الوعي الاجتماعي الفردي، والجماعي. من ثم أدى ذلك إلى حالة هوسيّة من الولع الاستهلاكي، وخروج بعض الفئات الاجتماعية، على القيم الاجتماعية الإيجابية، وعدم احترامها، واتخاذ قيم الاستهلاك المفرط، وإشباعه بالطرق والوسائل المشروعة، واللا مشروعة كافة أياً كانت، على نحو يؤدي إلى انتهاك القوانين، وقيم النظام – أياً كانت طبيعتها السياسية والاجتماعية وانحيازاتها – على نحو يكرس ثقافة اللانظام والفوضى.

ساهمت الحياة الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، في انفجار قيم الاستعراض الرقمي والفعلي، ومن ثم إلى الاستهلاك، والأنانية، والسلبية، والنقد المجاني السلبي لكل مكونات النظام والقانون – وأحياناً إيجابي – والخروج على بعض ما كان يشكل ما يطلق عليه الآداب العامة، في اللغة، والسلوك الرقمي سعياً وراء التفضيلات، والحصول على المال من الشركات الرقمية.

أدت وسائل التواصل إلى انفجار الولع بالاستهلاك المفرط، وتحقيقه بالوسائل والطرق كافة في الواقع الفعلي.

لا شك أن ثقافة الفوضى واللانظام تشكل سمت الحالة الاجتماعية في عديد من المجتمعات العربية، وتحتاج إلى معالجات شاملة، لاستعادة التوازنات الاجتماعية بين المصالح الاجتماعية المتصارعة ومفهوم النظام وثقافته.

المصدر: الأهرام


Author : نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

RELATED POSTS

Comments are closed.