ادلب الخضراء.. معشوقتي
ما سأتناوله من حديث عن أرض الخصب والخضرة والنماء، وجمال الطبيعة الفاتن بتضاريسها المتنوعة، ويخص مدينة ادلب ومحافظتها.
إنما يتوجه أولاً إلى الفئات العمرية التي بدأت حياتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وأصبحت شاهد عيان على ما كانت عليه هذه المحافظة من جمال وسحر متميزين.
وكذلك على ما انتهت اليه من حال مؤلمة ومحزنة على صعيد الأرض والبشر، شأنها شأن غيرها من محافظات ومدن الوطن السوري، فقد تعرضت جميعها لعمليات تشويه وإلحاق وقسر وحرمان وتجويع وتدجين لا تحصى، على مدى السنوات اللاحقة من هذا التاريخ الذي عايشته الفئات العمرية التالية حتى يومنا هذا.
وعليه ونحن نعيش مرحلة فارقة في حياتنا المعاصرة التي تتميز بتمكن شعبنا من تفجير ثورته العظيمة الهادفة إلى إعادة بناء الوطن على أسس وطنية سيدة ومستقلة يعود الشعب فيها فيأخذ زمام المبادرة ويمارس دوره الطبيعي وحقه في بناء وطنه ودولته على مرتكزات تنموية صادقة ومخلصة، ينتفي فيها الفساد والسرقة والهدر والاحتكار والتبعية للخارج الاستعماري البغيض.
فإننا ونحن على هذه الحال من الطبيعي أن نقوم بمراجعة لمسار حياتنا الراهن فنستحضر الماضي في سياق نظرة مقارنة بينه وبين الحاضر. ونتذكر ما فيه من صور زاهية للطبيعة الأخاذة المشكلة لهذه القطعة من الأرض السورية التي لم تفارق مخيلتي يوماً منذ أن بدأت عيناي تتفتح على ما يحيط بي من واقع مادي وبشري، أي منذ خمسينيات القرن الماضي.
ولنقارن كذلك هذه الصورة بما تعرضت إليه هذه المحافظة من تدهور وإفقار وتدمير ممنهج وهو الأمر الذي أصاب باقي المحافظات والمدن السورية كما أسلفنا، ودفع شعبنا بفئاته كافة إلى إطلاق ثورته العظيمة.
وبالعودة إلى تلك الصورة الجميلة نرى كم كانت سلسلة جبال باريشا وحارم وجبل الزاوية والوسطاني جاذبة وممتعة، بل وساحرة وهي تحتضن سهول ما يسمى الروج وشمارون والبالعة والعرشاني والوطاة الممتدة على مساحات شاسعة.
تحدد مساحة المحافظة التي تبلغ 6067 كم٢ احتضاناً حانياً أشبه باحتضان سوار ذهبي لمعصم سيدة فائقة الجمال، وكم كانت تلك الجبال عامرة بالأشجار الجبلية الموغلة في الكثافة والخضرة حتى لتكاد تشبه الغابات، كأشجار السنديان والبلوط والشوح والزعرور والبطم.. وغيرها.
وكم كان أثر تيارات الهواء النقية العليلة التي تنفثها هذه السلاسل باعثاً على السعادة ودبيب الحياة من جديد في أفئدة وقلوب عشرات الآلاف ممن يقطنون هذه الأرض الطيبة.
أما عن كثافة وأعداد أشجار الزيتون اللافتة التي كان يتباهى بها الاقتصاد السوري الذي كان آنذاك يصنف اقتصاداً زراعياً وعن الزيت المنتج من هذه الأشجار.. فحدث ولا حرج.
لم تنس مخيلاتنا الملاءة الخضراء الباهرة التي تغطي تلك المساحة الشاسعة من أراضي المحافظة بألوان الأخضر والأحمر المتباينة، في الموسم السنوي للزيتون المترافق مع عمليات القطاف والترحيل إلى المعاصر.
كما لم تنس ذواكرنا تلك المساحة الممتدة طويلاً من الأرض التي تغمرها المياه المنحدرة من الينابيع التي تحتضنها هذه السلسلة الجبلية مشكلة بما يسمى مستنقع البالعة حيث كانت تأوي اليها أشكال غريبة من الطيور البرية كالحجل والنسور والمائية كاللقلق والبط والإوز إضافة إلى أنها كانت قاعاً خصباً لأنواع من الأسماك التي كانت تغذي تلك المنطقة بعمومها..
ومن الذاكرة أيضاً تلك الصورة الجميلة لهذه المساحات من الأرض التي تتغطى في فصل الصيف برداء من اللون الذهبي حيث موسم القمح السنوي الذي كان يرفد الإنتاج السوري والذي كان يعتبر أحد المواد المصدرة إلى الخارج إلى جانب الزيت والزيتون.
أما صورة الرداء الأبيض الناصع الذي كانت تلتحف به تلك المساحات الشاسعة من الأراضي في الموسم السنوي للقطن والذي كان يعتبر المادة التصديرية الثالثة في الاقتصاد السوري.. تحفر في مخيال ابن هذه المنطقة فلا تفارقه أبداً.
إضافة إلى ما تقدم لابد أن نذكر بأن كتبنا المدرسية كانت أول من أعلمنا بأن سورية بلد زراعي يشتهر بتصدير القمح وزيت الزيتون والقطن.. وأن هذه المواد الثلاث كانت الرافد الأول والوافر لخزينة الدولة آنذاك..
كما ويضاف إلى هذه الصورة الفريدة المعبرة والآسرة للقلوب التي رسمتها لنا التضاريس الطبيعية ما كان يغمرها على المستوى الإنساني من علاقات اجتماعية موروثة ومعاصرة تعنون بمفاهيم الحب والعطف والتعاون والحنان والشفافية الدفاقة. كما كان ينظم كل ذلك على المستوى السياسي مفاهيم الديمقراطية الحقيقية حيث وصل في حينها إلى قبة البرلمان قطبي الإخوان المسلمون والشيوعيون. فكان لابد للمرء في هذا الفضاء أن يتحسس في ذاته كل آيات السيادة والحرية والثقة بالنفس.
أخيراً واستكمالاً لهذا المشهد الجميل لابد أن نذكر أيضاً، أن هذا المشهد إنما كان يختزن في ثناياه روحاً تنبض بمفاهيم الحرية والإباء والسيادة وعنفوان الشخصية المستقلة، هذه الروح التي دفعت أهلها ليكونوا أول مجتمع سوري يقول لا للعميل الأسد الكبير في بداية اغتصابه للسلطة السياسية.. الأمر الذي حرك فيه مشاعر الحقد تجاه المحافظة فعاقبها اقتصادياً، وعزلها عن الطريق التجاري الاستراتيجي الذي كان يصل بينها وبين دمشق واللاذقية وجعل منها إحدى المدن المنسية في سورية.
هكذا كانت معشوقتي التي أحببت، وفتنت في كينونتها الجغرافية والبشرية، وهكذا حولها أجراء النظام الدولي المتمثل بآل الأسد إلى الواقع الراهن الذي نعيش تداعياته وعذاباته هذه الأيام.
ولكن، يبقى التاريخ بالنسبة لنا هو المعلم الأصدق حيث ينبئنا أن قانون الحب والعشق الذي تقوم عليه الثورات أقوى قوانين الكراهية والتوحش الذي يحرك الطغاة والمأجورين.
وإن غداً لناظره لقريب.