الحرية الرقمية والعقل المحاصر

img

أدت الثورة الرقمية إلى تشكيل العقل الرقمي، وذلك من خلال نظام اللغة الرقمية، وأدواتها في التعبير المختلفة بما فيها الذكاء الاصطناعي والتداخل بين اللغة العامية، والفصحى لدى الجموع الرقمية الغفيرة وبين الإنجليزية – والفرنسية – وبين اللغة المحكية، وخاصة لدى الأجيال الشابة، وجيل Z، وألفا، وتوظيفهم المواد التي تنتشر على المواقع الرقمية، وحساباتها، سواء المكتوبة، أو المصورة، أو الفيديوهاتية.. إلخ.

العقل الرقمي، ليس واحداً، وإنما ينقسم إلى عقل الجموع الرقمية من العاديين – بين المتعلمين وإنصافهم آيا كانت درجاتهم التعليمية، وعقل الخاصة من “المثقفين”، أو من الحاصلين على الدرجات العلمية العليا، وخاصة الدكتوراه، والأكاديميين. وسنركز على الحالة الأولى في هذا المقال.

أن نظرات تحليلية على حركة واشتغالات العقل الرقمي تشير إلى بعض السمات المائزة بين عقل الجموع الرقمية الغفيرة، وبين عقل الخواص الرقميين، على الرغم من بعض الجوامع المشتركة بينهما، في اللغة الومضة السريعة، والنظرات الومضات، والتعليقات السريعة الموجزة، والمكثفة –آيا كانت حواملها من الأفكار تافهة، أو بسيطة، أو بها بعض من الذكاء والعمق في الملاحظة.. إلخ-، وفى ذات الوقت والسياقات، هناك تداخل وتفاعل بين العقل الرقمي، والعقل الفعلي الواقعي، وتأثير الرقمي في الفعلي. ثمة ايضاً بعض من الانفصال بين العقل الفعلي، والعقل الرقمي، من حيث إدمان الفرد الرقمي على الحياة الرقمية، واستغراقه حواسياً، وفكرياً في تفاصيلها المتغيرة، في أثناء العمل، وفى الطرق، والمقاهي، وأثناء قيادة السيارات – ممن يملكونها – أو أثناء الانتقال من مكان لآخر في السيارات العامة، والخاصة، وفي القطارات، وعربات المترو، وأثناء تناول الطعام في المنازل، أو المطاعم، بل وأثناء الفرجة على التلفاز. لا شك أن العقل الرقمي للجموع الغفيرة، أدى إلى إعادة تشكيل بعض الحياة والعقلية الفعلية، وخاصة بين الأجيال الشابة وصغيرة السن، لاسيما جيل Z.

يميل عقل الجموع الرقمية الغفيرة إلى الاستهلاك الرقمي للمواد الترفيهية، وإلى المشاركة بالفيديوهات الطلقة الوجيزة، وتقديم مواد تمثيلية وترفيهية، هادفة إلى جذب التفصيلات – Like وغيرها – وتشييرها، بهدف الحصول على المال، سواء من خلال أعمال الطبخ وإعداد الطعام، أو إبراز بعض النسوة لمناطق الإثارة الحواسية أثناء إعدادهن للطعام، أو تنظيم وترتيب المنزل.. إلخ بالإضافة إلى بعض ممن يعرضن مفاتنهن، أو بعض الفيديوهات الحواسية على بعض المواقع الإباحية.. الخ!.

يلجأ بعض الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات، والعازفين إلى إطلاق بعض الآراء المثيرة حول حياتهم الخاصة، أو أزواجهن، الحاليين، أو السابقين، أو مشاكل الطلاق وغيرها بهدف تحقيق الإثارة والحضور على الواقع الرقمي، بهدف الشهرة، والذيوع والاستمرار، أو وضع صور لهن/هم بها بعض من الإثارة، لكى يستمر الطلب عليهم/هن في الأعمال السينمائية أو التلفازية، أو الحفلات العامة، وذلك لمواجهة ظاهرة انطفاء الشهرة بسرعة فائقة، ومن ثم انخفاض الطلب عليهم/هن ، لسرعة استهلاك الجمهور لهن، وحلول ممثلات أصغر سناً وجمالاً بديلا عنهن بين سنة وشهور وأخرى، وتحولهن إلى التقاعد، وهن في أعمار شابه.

يميل عقل الجموع الرقمية الغفيرة إلى الإثارة، وإلى الأكاذيب والأخبار المزيفة والمختلقة، والانطباعات المرسلة، وعدم التحقق من دقة المعلومات، أو غيابها، وهيمنة المشاعر الصاخبة، وإحكام القيمة، والتحيزات الدينية والعقائدية والمذهبية، والنظرات المانوية للعالم – بين ثنائية الخير والشر، والصح والخطأ.. إلخ من منظورهم – والخلط بين العام والخاص، والتداخل بينهما! يميل عقل العوام الرقميين إلى الشعبوية، وتمجيد الخرافات، والحكم والأمثولات الشعبية، والميتافزيقيات الموروثة والمنتشرة في الأوساط الريفية وهوامش وقيعان المدن التي باتت مريفة… إلخ.

نحن إزاء عقل الجموع الرقمية الغفيرة الأحادي، وسايرهم الأطباء في الإعلان عن تخصصاتهم، وعناوينهم، وخطابهم السريع عن بعض الأمراض الشائعة وكيفية معالجتها لديهم وميل بعضهم للحديث المتداخل مع التدين الشعبي والأدوية الطبيعية والطعام! ولجوء بعض الروائيين والشعراء والقصاصين والمسرحيين و”النقاد” للإعلان عن أعمالهم، أو قصائدهم سعياً وراء الترويج! يؤدي العقل الرقمي، وعمليات تفكيره الومضاتي إلى انشطار الإنسان بين الحياة الرقمية والفعلية، ورقمنة بعض الأخيرة. العقل الرقمي، وتفكيره الومضاتي، يُعبر عن سطحية التفكير السريع، ويميل إلى بعض الأفكار الساذجة التي تظهر من المنشورات، والتغريدات. من هنا تبدو الحرية الرقمية بمثابة حرية في إظهار الدوافع “الغرائز” المضمرة – وفق المصطلح القديم – أو الظاهرة نسبياً في التعبير عن ذوات مأزومة ومقموعة في الواقع الفعلي سياسياً، وأمنيا في النظم الشمولية والتسلطية، وأيضاً في النظم الديمقراطية في التعبير عن غضبها السياسي، من الحكومات، أو الإدارة المحلية، أو نظام العمل، أو التضخم، أو بعض من الشعبوية السياسية، أو كراهية الأجانب، أو الإسلاموفوبيا، أو العنصرية إزاء بعض الأقليات العرقية الأفريقية، وغيرها.

الحياة الرقمية هنا تتجسد من خلال مجال عام رقمي مفتوح في النظم الديمقراطية التمثيلية. ثمة وهم أن الحرية الرقمية للعقل الرقمي بلا حدود، إلا أن إمعان النظر يشير إلى أنَ الحياة الرقمية محاصرة في نعومة، من خلال أنظمة الرقابة الرقمية على جميع المواقع من الشركات الرقمية الكبرى التي تمتلك كافة الحسابات الرقمية، وتوظفها في إعادة تشكيل الرغبات، وأنماط الاستهلاك، من خلال بيعها إلى الشركات الكبرى والعملاقة في إعادة صياغة سياساتها الإنتاجية، أو الخدمية في ضوء البيانات الضخمة – Big Data – التي يتم تحليلها، وتوظيف في تغيير أنماط الإنتاج والخدمات، وتسليع وتشيوء السلوك الإنسانى.

ثمة أنظمة رقابات سياسية، وأمنية، واستخباراتية تراقب المواقع الإرهابية –القاعدة، وداعش، وغيرهما-، والمشاركين والناظرين إلى منشوراتهم في هذه المواقع.

لا شك أن هذه الأنظمة الرقمية الرقابية، تجعل العقل الرقمي للجموع الغفيرة مراقب، ومحاصر، في نعومة، ومن ثم يؤدى ذلك إلى إشاعة بعضُ من رهابُ الخوف لدى بعض المستخدمين الرقميين، ومن ثم إلى عدم التعبير الحر عن الرأي، أو إلى حالة الصمت، أو الامتناع عن الوصول إلى هذه المواقع الإرهابية.

الحرية الرقمية، ليست تحت الرقابة الرقمية السياسية والأمنية، والاستخباراتية للدول فقط، بل تحاصرها الرقابات المتبادلة والخشنة احياناً من بعضهم من بين مستخدمي الحياة الرقمية، سواء عرف العقل العام الرقمي للجموع الغفيرة، أو لم يعرف! الأخطر أن العقل الرقمي يحاصر بعضه بعضا من خلال اللغة الجارحة والغلظة والخشونة، واللغة الدينية، واستخدام الغالبية الرقمية فى العالم العربي، الحياة الرقمية كمجال عام للدعوة والإرشاد الديني – العقائدي والطقوس والسرديات الوضعية الشعبية حول المقدس والسُنَوي الإسلامي، وفي التقاليد والطقوس والمرويات الشعبية والكهنوتية المسيحية لاسيما الأرثوذكسية – في الترويج لهذه السرديات الدينية الشعبية بقطع النظر عن مدى صحتها، أو صوابها الديني. الأخطر أن بعضهم يميل عقله الرقمي إلى الإيمان بالحقائق المطلقة، بينما هي نسبية تماماً وبعضها لا توثيق أو سند تاريخي موثق حوله، ويعتقد بعضهم أنه ينطق بالحقيقة، والمقدس معاً!، ويدافع عنها بشراسة وإيمانية! بينما لا تعدو أن تكون رأياً انطباعياً، مؤسس على بعض من أنماط التدين الشعبي الموروث، والوضعي حول الدين، والمرويات والقصص الشعبي حوله! لا شك أن ميل العقل الرقمي الديني للجموع الرقمية الغفيرة، ينزغ نحو الشعبوية، ويؤدى إلى التعصب ويشجع عليه، وكراهية الأخر الديني “للمواطن المختلف دينياً” داخل الدولة والمجتمع الذي ينتمي إليه العقل الديني الرقمي المتطرف.

العقل الديني الرقمي المتشدد والمتطرف، يمثل عقبه إزاء حرية التدين والاعتقاد الدستورية، وإزاء العقل الحر والحريات العامة والشخصية، لأنه عقل أحادي يمتلك حقائقه الوضعية المطلقة والمتخيلة، ويريد أن يفرضها على الآخرين، وحرياتهم في التفكير والتعبير، وأيضا على حرياتهم العامة، والخاصة بدعوى أن ذلك يمثل خروجا على صحيح الدين من منظوراتهم الأحادية.

العقل الرقمي الأحادي للجموع الغفيرة، عقل ساكت ينطق باللغة الخشبية، التي لا تبين، عقل سجالي واتهامي وليس عقلاً جدلياً، وحوارياً، ومن ثم يشكل بذاته، ولذاته قيداً على حريته، وحريات الآخرين، على الرغم من الإدراك الشعبوي الشائع للجموع الرقمية الغفيرة إنها تمارس الحرية على الحياة الرقمية، بينما تحوطها سياجات أنظمة الرقابات الرقمية، وقيود عقلها الرقمي الجمعي على هذه الحرية.

المصدر: الأهرام


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة