دراسة حول ثورة الشريف حسين عام 1916 والعلاقة مع الحركات القومية في بلاد الشام (2)
يستكمل هذا الجزء دراسة البروفسور سنوك لتاريخ شرافة مكة والوضع السياسي للحجاز عشية ثورة الشريف حسين عام 1916 وذلك حتى استيلاء الوهابيين على الحجاز ثم استعادة سلطة الدولة العثمانية عليه بمساعدة محمد علي باشا.
تميزت شرافة مكة عن معظم الولايات والدويلات التي انقسمت إليها الإمبراطورية الإسلامية (الدولة العباسية المتأخرة) فهي لم تتطور تدريجياً من الحكم الذاتي إلى حالة متقدمة من الاستقلال، لكنها ولدت بصورة عفوية خلال فترة من الفوضى السياسية، وفي بغداد كما في كل العواصم المجاورة تقبل الناس ذلك التغيير (صعود شرافة مكة) كأمر واقع، بالتالي فشرافة مكة لم تحصل على اعتراف صريح مثلما أنها لم ترفض بصورة صريحة أيضاً باعتبارها غير قانونية، كما أن امتداد بقاءها لقرن كامل حمل معه أيضاً نوعاً من الشرعية العرفية (غير المكتوبة) وبسبب القبول الذي حازته من كثير من القبائل الإسلامية (طبعاً العربية)، والتي تتمثل عادة بوفودها في مواسم الحج. وهؤلاء الزوار يحظون عادة بالرعاية الطبية والمعالجة من الأمراض من قبل شرافة مكة.
وهم بالرغم من ذلك كانوا يحملون اعتقاداً بأن الحق في حكم مكة ينبغي أن يعود إلى فرع من النسب الهاشمي المقدس، وقد كانت تلك القناعة لديهم حقيقة بسيطة غير قابلة للجدل.
أما القوى الإسلامية الرئيسية (كالسلاجقة والفاطميين) والذين كان شرفاء مكة مجبرين على الخضوع لهم فقد كانوا دائماً يبدون تحفظهم إلى جانب اعترافهم الضمني بشرافة مكة، وهكذا لم يكن شريف مكة حاكماً مستقلاً قط، وكان عليه في نهاية المطاف الاعتراف بسيادة الدولة المهيمنة.
كما سبق فالفضل في حصول شرافة مكة على وضعهم المتميز يعود لتلك الظروف والأحداث التي رافقت ولادة حكمهم لمكة، ولم نشهد بعد ذلك أي تقدم لديهم مهما كان ضئيلاً يرتبط بالمكانة الفريدة لمكة بالنسبة للعالم الإسلامي الواسع.
منذ القرن العاشر الميلادي لم يمتلك أي من الأمراء المسلمين الآلية العسكرية والسياسية التي تتحكم بغرب شبه الجزيرة العربية (الحجاز) ولو بشكل غير كامل من النظام.
لكن أولئك الأمراء كانوا يتشابهون في نقطتين:
الأولى: تصميمهم على ذكر أسمائهم في الأدعية والصلوات في موسم الحج في مكة وكل واحد منهم كان يرغب بذكر اسمه قبل الآخر.
والثانية: أن الوفود التي تمثلهم في موسم الحج تحصل على ترتيب متقدم يناسب ما يتظاهرون به أمام الشعب من مكانة وهيبة.
في الصلاة والدعاء كان لاسم الخليفة المقام الأول دون منازع، حتى بعد أن أصبحت سلطته الفعلية أثراً بعد عين، لقد احتفظ أشراف مكة بالسلطة في مكة من العام 1000م وحتى 1200م بنهجهم نوعاً من الحيادية، وبتوجيههم كان يتم الدعاء للخليفة في بغداد ومرة ثانية لمدعي الخلافة الفاطمي في مصر، وذلك وفقاً لقوة كل منهم ولما يقدمه من أعطيات ومنح لشرافة مكة.
منذ العام 1200 م وحتى اليوم (تاريخ كتابة البحث حوالي 1916) تحرر شرفاء مكة من الاختيار بين الخليفة في بغداد ومنافسه الفاطمي حين سقطت الدولة الفاطمية وحين اجتاح المغول بغداد عام 1258 م، وفي القرون التي تلت اكتفى شرفاء مكة بالدعاء للسلاطين في الصلاة، وبذلك ارتسمت العلاقة الرسمية بين شرافة مكة والسلاطين لأول مرة في أدعية الصلاة.
احتلت مصر مكانة لا تقبل المنافسة بحيث يمكن القول إن سلاطينها (يقصد الأيوبيين ثم المماليك) مارسوا نوعاً من الوصاية على الحجاز من القرن الثالث عشر الميلادي وحتى القرن السادس عشر وقد كان الحجاز خلال تلك الفترة يعتمد على أرض النيل في الحصول على المواد الغذائية والحاجات الضرورية الأخرى. على أن سلاطين المماليك قبلوا استمرار حكم مكة من قبل الأشراف دون أن يتدخلوا في الصراعات التي لا تنتهي على السلطة والتي كانت تدور ضمن الهاشميين.
فقط عندما كان يلزم الأمر كان السلاطين المملوكيون يمارسون شيئاً من الجهد العسكري عبر فصائل مخصصة من الجيش لتعديل ميزان القوى بين المتنافسين على السلطة في مكة بحيث يتحقق لهم الخضوع في النهاية. وقد كان هناك دائماً ذلك الفارق الكبير في القوة بين الجنود المدربين لأقوى دولة إسلامية (مصر) وبين قوة أشراف مكة المتواضعة المؤلفة عادة من بضع مئات العبيد، ومثلهم من المرتزقة، والدعم غير المنتظم من بعض القبائل البدوية، كما أن التمردات المحلية تطلبت دائماً من قائد الحملات التأديبية التعاون مع أحد الفرقاء في هذه البلاد المضطربة.
في عام 1517 م وعندما جرى الاستيلاء على مصر من قبل السلطان التركي سليم الأول تسلمت تركيا بصورة أوتوماتيكية الوصاية على الأراضي المقدسة في الحجاز.
أطلق كل واحد من السلاطين العثمانيين على نفسه بتواضع وفخر لقب “خادم الحرمين الشريفين” وفي الوقت ذاته كانت حاميتهم في مكة تظهر للأعين أنهم لا يرغبون في إشراك أحد بتلك الخدمة للديار المقدسة.
ومنذ ذلك الوقت (يقصد تسلم الوصاية على الحجاز بعد السيطرة على مصر) ظلت أسماؤهم تسبق اسم شريف مكة الأكبر في الخطب والأدعية، وبعد ذلك ارتفع شرف مكانتهم حين أصبح لقب خليفة المسلمين يسبق أسماءهم والذين كان يشبه الختم على قوتهم التي لا نظير لها في العالم الإسلامي.
لكن العثمانيين لم يبذلوا سوى جهد قليل لإصلاح الإدارة الغارقة في الفوضى للحجاز، مثلما كان عليه الحال بالنسبة لمن سبقهم بالوصاية على الأراضي المقدسة.
وفي ذلك التاريخ كانت شرافة مكة قد أكملت ثلاثمئة عام دون أن يسائلها أحد عن مشروعيتها أو التأييد الذي تحظى به مؤسستها، وكانت الأساليب الإدارية للعثمانيين بالكاد قد بدأت تتكيف مع المركزية الدائمة التي اتصفت بها الإمبراطورية الإسلامية السابقة (يقصد الدولة العباسية)، وسرعان ما بدأت مختلف الولايات تأخذ شكل إدارات ذاتية، كل واحدة منها مستقلة عن المركز إلى حد كبير.
كان كل من باشوات القاهرة ودمشق وبغداد يتنافسون فيمن سيكون له المرتبة الأولى من الحضور في مكة. وكانت شرافة مكة تستفيد من ذلك التنافس، بالمقابل كانت الدول التي تتنافس على السيادة على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة تستفيد من النزاعات بين أشراف مكة.
لم يعان أشراف مكة في القرن الثامن عشر من ضغوط خارجية عليهم، لكنهم كانوا مضطرين للاعتماد على أنفسهم، ونظراً لعدم امتلاكهم ما يكفي من العتاد فقد شكل ذلك خطراً عليهم في حال ظهور عدو غير متوقع يهدد بتدمير سلطتهم في الحجاز.
في ذلك الوقت ظهر الوهابيون في الجزء الداخلي من شبه الجزيرة العربية، يحملون بحماس وتشدد راية الإصلاح وتخليص الإسلام مما لحق به من شوائب.
هذه الحرب المقدسة المتجهة بصورة رئيسية ضد الهيمنة التركية (الدولة العثمانية) نجحت في إشعال حماسة دينية في أجزاء واسعة من شبه الجزيرة العربية تشبه تلك الحماسة الدينية التي أيقظها محمد (عليه الصلاة والسلام) قبل اثني عشر قرناً، ومع نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين تمكن الوهابيون من السيطرة على مكة والمدينة وفرض الاعتراف بسلطتهم على أشراف مكة.
لاحقاً استطاع باشا مصر محمد علي الذي أصبح الخديوي الأول فيما بعد وبجهود عسكرية مضنية استعادة الأماكن المقدسة من يد الوهابيين منفذاً بذلك المهمة التي أوكله بها السلطان العثماني.
من أجل ذلك تمت معاقبة شريف مكة لتخاذله في التصدي للوهابيين ضمن ولايته مع بعض أعضاء عائلته، كما منح السلطان العثماني مركز الشريف المعزول لفرع ثان من الأشراف.
لكن وحتى في هذه الكارثة (استيلاء الوهابيين على الأراضي المقدسة وطردهم الأتراك ثم استعادة سلطة الدولة العثمانية على تلك الأراضي بجهود الباشا محمد علي) لم يجر الحديث عن إلغاء شرافة مكة.