العقل العربي والإبادة والنموذج الغربي

img

الجحيم في قطاع غزة، شكل الحد الفاصل نسبيا بين الوحشية الإسرائيلية، وبين الوجه الأخلاقي والثقافي لليبرالية الغربية، وانفجار التناقضات بين الجاذبية التاريخية والألق لقيم الحرية والعدالة والمساواة، والإخاء الانساني، وبين المواقف السياسية الرسمية للإدارات السياسية الغربية في أمريكا، وأوروبا!.

هذا التناقض، ونتائج الحرب الكارثية، من القتلى، والجرحى، 31819 قتيل، و73934 مصاب وقت كتابة المقال، والتدمير واسع النطاق لمباني القطاع الخاصة، والعامة، يفتح الباب أمام أسئلة بعضها موروث، وأخرى مستجدة، ومنها متغيرات جديدة، على رأسها انهيار لمفاهيم السلام والتطبيع، ومحاولات دمج الدولة الإسرائيلية في الإقليم العربي، بعد اتفاقات أبراهام. الأخطر احتمالات عودة الموجات الإسلامية السياسية الراديكالية مجدداً، وعملياتها في العالم، وأوروبا، والمنطقة. من ناحية أخرى انعكاسات ذلك على النظرات التاريخية المستمرة منذ نهاية القرن التاسع عشر حول مركزية المثال لأوروبي ثم الأمريكي كطريق للتقدم، وتجاوز وضعية التخلف التاريخي!.

ثمة احتمالات جديدة لتأثير الموجات الإسلاموية السياسية على اتجاهات بعض الرأي العام العربي، من القيم الديمقراطية السياسية الليبرالية، وتزايد الفجوات مع الثقافات الغربية، واستمرارية النظرة إلى “الغرب الواحد”، في الوعي الاجتماعي شبه الجمعي السائد عربياً!.

هل تؤدي المذابح الإسرائيلية، والدعم الأمريكي الأوروبي لجيش العدوان إلى تراجع بعض العقل العربي عن تمركزه التاريخي الأثير حول المسار الأوروبي/الأمريكي “للتقدم”؟ هل لا تزال التجارب الأورو-أمريكية تمثل الطريق الأمثل للخروج من دوائر التخلف التاريخي المركب؟.

لماذا تطرح هذه الأسئلة مجدداً في أعقاب حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني المحتل في قطاع غزة؟

المسار الأوروبي للتقدم ظلت مهيمنة على العقل العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفي المرحلة الكولونيالية الغاشمة، حتى الأمريكي في أعقاب ما بعد مرحلة الاستقلال الوطني، وبناء الدولة الوطنية، والاستثناءات محدودة عربياً.

استمرارية هذه المسارات الغربية للتقدم في العقل العربي، مرجعها عديد الأسباب، يمكن رصد بعضها على النحو التالي:

1- الدرس التاريخي المسيطر عربياً حول الثورات التكنولوجية منذ الثورة الصناعية الأولى، إلى الرابعة، تمحور حول الغرب بامتياز.

2- التطور في مجالات العلوم الطبيعية، والإنسانية تم إنجازه في الجامعات، ومراكز البحث العلمي الغربية، التي تعلم في إطارها بعض الباحثين والعلماء والأكاديميين العرب، مع بعض الاستثناءات التي تمت في التجارب اليابانية، والصينية، والسانغفورية، والكورية الجنوبية، والماليزية والهندية في آسيا الناهضة.

3- أسئلة التقدم، ومفاتيحه، وأسباب التخلف العربي، لا تزال المطروحة نسبياً، في صياغات مختلفة منذ المرحلة الاستعمارية، وما بعدها، وحتى الألفية الجديدة!

4- فشل نموذج رأسمالية الدولة الوطنية في مرحلة التحرر الوطني – لأسباب دولية ووطنية – ومعها مجازاتها ومسمياتها كالاشتراكية العربية على المثال الناصري والبعثي.

5- فشل غالب تجارب العودة إلى الطريق الرأسمالي للتنمية الاقتصادية وتزايد مديونيات دول العسر الاقتصادي العربية، والانفصال بين الرأسمالية النيوليبرالية، والتحول الديمقراطي الشامل، وسيطرت رأسمالية المحاسبية والزبائن، وارتباطاتهم الغربية.

6- موت السياسة، كنتاج للسياجات القمعية على معتقلات العقل والضمير العربي، وفشل الطبقات البيرو- تكنوقراطية في إدارة دولة ما بعد الاستقلال.

7- تدهور سياسات التعليم، والبحث العلمي، ومستوياتهم والانفصال بينهم، وبين أسواق العمل، والسياسات التنموية!.

8- تراجع حركات التصنيع، وتخلفها عن الثورة الصناعية الثالثة، والرابعة، والاعتماد على اقتصاديات الريع، والخدمات، لا الإنتاج.

لا شك أن هذه الأسباب، وغيرها، أدت إلى حصار غالب العقل العربي، وراء المسارات الغربية للتطور العلمي والأدبي والفلسفي والاجتماعي، إلا أن حركات المد السياسي الإسلامي ذات العقل النقلي، والراديكالي، وغيرها من السلفيات وخاصة الجهادية، ترفض هذا المسار دونما رؤى نقدية، أو تقديم مسارات أخرى بديلة!.

لأنها تركز على الجوانب الدينية، والقيمية، والأخلاقية دونما نظر للجوانب العلمية، والتكنولوجية، والمعرفية. لا شك أن بعض نتائج الحرب الإبادية على قطاع غزة ستؤدي إلى المزيد من التشكيك في المثال الأخلاقي، والقيمي الغربي سواء من المثقفين شبه العلمانيين، أو من منظري ودعاة الإسلام السياسي، والسلفي، والمرجح في تعميمات مرسلة جديدة، ستجد لديها بعض من الرواج داخل قطاعات جماهيرية عربية ساخطة، ومتأثرة بالمذابح الإسرائيلية، والمواقف الغربية الداعمة لهاّ في ظل استمرارية مفهوم الغرب الأحادي المسيطر على غالب الوعي العربي شبه الجمعي، دونما نظرة إلي التعدديات داخل المجتمعات الغربية، وتزايد بعض الجماعات الحقوقية، والإنسانوية الرافضة للمذابح الإسرائيلية، وانتقادات بعض السياسيين الأمريكيين والأوروبيين للمذابح، والتجويع ونقص الطعام، والدواء، وأعداد القتلى المرتفعة من الأطفال، والنساء، ولسياسة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة.

لا شك أن موجه “كراهية”!، ورفض للنماذج الغربية سياسياً، وأخلاقياً، ستكون لديها، انعكاسات داخلية في المجتمعات العربية، إلا أن مسارات التقدم على النمط الغربي، ستستمر، وخاصة أن القيم الديمقراطية الغربية لا تزال لها الهيمنة على غالبُ الفكر شبه العلماني العربي المعاصر، وتوظيفه في نقد أنظمة الحكم التسلطية، والشمولية، مع استمرارية التصور السائد نسبياً، وأن ذلك يمثل أحد أشكال الدعم من الإدارات السياسية الأمريكية، والأوروبية، والمنظمات الحقوقية في هذه الدول للجماعات التي تنادى بالديمقراطية، والإصلاح السياسي في المجتمعات العربية.

يتناسى هذا التيار “الديمقراطي “العربي، أن أمريكا والدول الأوربية تدعم أنظمة الحكم القائمة، لتحقيق مصالحها القومية في المنطقة، وفي الصراع الدولي مع الصين وروسيا.

لم يستطع غالب دعاة الديمقراطية الغربية والنيوليبرالية أنتاج خطابات نقدية، لمسارات التغير في نماذج الديمقراطيات التمثيلية، ولا للنيوليبرالية الغربية. في ذات الوقت لم يستطع التيار الليبرالي العربي – ذو القواعد الاجتماعية المحدودة شعبياً – أن يقدم تصورات حول تجديد الفكر الديني الماضوي السائد اجتماعياً، وفي السياسات الدينية السلطوية، ووسط غالبُ جماعات رجال الدين على اختلاف توجهاتهم الرسمية، والمعارضة. ومن ثم لم يدرسوا الإعاقات البنائية للموروث الثقافي والتديني الشعبي السائد، إزاء تأسيس قيم الديمقراطية، والحريات العامة والشخصية في مجتمعاتهم.

من هنا المرجح أن التيار الليبرالي العربي، سيظل حاملاً إعاقاته الفكرية، وهشاشته، ومحدودية قواعده الاجتماعية، وانحيازه للنيوليبرالية الرأسمالية، دونما نظر نقدي لتحولات التجارب الآسيوية الناهضة. لا شك أن غالب العقل العربي بات أحاديا وسلفيا في نظراته إلى المسارات الغربية للتقدم، ويعيد إنتاجها في صياغات ثنائية ضدية، دونما متابعة لأثر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي على النماذج الغربية الاقتصادية والسياسية والعلمية والمعرفية. خاصة أن انعكاسات الذكاء الاصطناعي على الحياة الاجتماعية، والشرط الإنساني ستكون ذات طابع راديكالي من حيث علاقة الإنسان، ومفاهيم العمل، وأوقات الفراغ، والعلاقة مع عالم الروبوتات، وهو أمر بالغ التغير، وسيشكل منعطفاً تاريخياً، وقطيعة مع مألوف التطور الإنساني كله!

مثل هذه التحولات لا تزال بعيدة عن العقل ذي البُعد الأحادي المسيطر، بمحمولاته اللاتاريخية التي لا تزال مهيمنة، والبعيدة عن الحياة المتغيرة كونياً.


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة