مختارات من دراسة في ثورة الشريف حسين وبناء صورة أكثر واقعية لعصر النهضة العربية (1)
لاحظت عودة للاهتمام بالتاريخ الحديث للمنطقة العربية اعتباراً من مطلع القرن العشرين، وهناك مساهمات (فيسبوكية) وغير فيسبوكية لاكتشاف سرديات مختلفة لذلك التاريخ بعيداً عن السرديات التي سادت منذ الستينيات من القرن الماضي.
ما يهم هو الموضوعية في تناول ذلك التاريخ، البعد عن الأهواء والأفكار المسبقة، الدقة العلمية وبناء الصورة بالاستناد للوثائق والحقائق وليس لمجرد الرأي الشخصي.
أيضاً الابتعاد عن التسرع في إصدار الأحكام كما جرت العادة عندنا، والابتعاد عن التبسيطات والتصنيفات وفقاً لمعايير مسبقة.
وكمساهمة متواضعة على ذلك الطريق سأبدأ بنشر أجزاء مختارة من كتابي ” دراسة في ثورة الشريف حسين والعلاقة مع الحركات القومية في بلاد الشام “
مدخل:
ما يرمي إليه هذا البحث هو محاولة تتبع البيئة التاريخية والظروف التي أحاطت بالأحداث في تلك المرحلة التاريخية المصيرية التي بدأت مع صعود جماعة الاتحاد والترقي القومية التركية للحكم قبيل نهاية الدولة العثمانية وحتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وقد أسفرت تلك المرحلة عن إحكام الهيمنة الغربية على المشرق العربي وما نشأ بسبب ذلك ومن أجل استدامة تلك الهيمنة من تقسيم المشرق وبناء هياكل سياسية وعسكرية وظيفية، دون إهمال دور الإرادة الإنسانية والمسؤولية الناجمة عن اللجوء لأحد الخيارات المتاحة، لكن مع ترك مسافة كافية للقارئ ليحكم بنفسه في النهاية، وليخرج بالنتائج التي يجدها أكثر مطابقة للواقع والحقيقة.
وقد بدأت بمراجعة بحث البروفسور الهولندي “سنوك هرخرونييه” بترجمة نص البحث المنشور بالإنكليزية عام 1917 وإضافة بعض التعليقات عليه حيثما كان ذلك ضروريا، وسبب ذلك كون هذا البحث من الأبحاث النادرة التي ألقت الضوء على نشأة وتاريخ شرافة مكة بطريقة علمية، وقد وجدت أن هذا يصلح ليكون المدخل المناسب، وبعد ذلك حاولت الاعتماد على المذكرات الشخصية، والأحداث الموثقة بعدة مصادر، كما وقفت عند بعض الشخصيات التي لعبت دوراً استثنائياً في تلك المرحلة، وغاية ما أرجوه أن يساعد هذا البحث الجيل العربي الجديد في بناء صورة أكثر واقعية لعصر النهضة العربية وما رافقها من نهوض وانتكاسات ومن آمال وخيبات.
دراسة حول ثورة الشريف حسين عام 1916 والعلاقة مع الحركات القومية في بلاد الشام (1-2)
ملخص دراسة البروفسور “دي. سنوك. هرخرونييه” حول شرافة مكة والظروف المحيطة بثورة الشريف حسين، طبعت ونشرت في لندن ونيويورك عام 1917 باللغة الانكليزية وقد قمت بترجمة الدراسة إلى العربية ومراجعتها كاملة في كتابي وسوف أختار منها هنا بعض الأجزاء لتفادي التفاصيل.
من هو البروفسور هرخرونييه؟
1- كريستيان سنوك هرخرونييه:
البروفسور كريستيان سنوك هرخرونييه الأستاذ في جامعة ليدن – هولندا والمستشار لوزارة المستعمرات الهولندية وأحد المستشرقين في دراسة الاسلام، ولد في 8 شباط عام 1857 في هولندا وتوفي في 26 حزيران عام 1936، وأثناء فترة تدريسه كمحاضر في جامعة ليدن بين العام 1880 والعام 1889 زار سنوك هرخرونييه الجزيرة العربية بين العام 1884 والعام 1885 واستقر لفترة في مكة.
كتب مؤلفه الكلاسيكي حول تاريخ مكة بعنوان ” مكة ” بين الأعوام (1888-1889) في مجلدين يتناول الأول تاريخ مكة منذ فجر الاسلام، كما يتناول الدين الاسلامي، والتقاليد والشعائر الاسلامية، والمجتمعات الإسلامية الأولى. بينما يتناول الجزء الثاني (نشر عام 1931) مكة في أواخر القرن التاسع عشر، ويتضمن تفاصيل عديدة للحياة اليومية بمكة في ظل الثقافة الاسلامية، كما يدرس حالة الجماعة الأندونيسية المقيمة في مكة، وبين عامي (1890-1906) اهتم سنوك إضافة لعمله الأكاديمي بوضع أسس السياسة الهولندية تجاه الإسلام خاصة في المستعمرة الأندونيسية كمستشار لوزارة المستعمرات.
وقد ظلت أفكاره معتمدة في وزارة المستعمرات حتى انتهاء الحكم الهولندي لأندونيسيا عام 1942.
وكملاحظة تستحق الوقوف قليلا عندها فقد تمكن سنوك من دخول مكة والإقامة فيها ودراسة شعائر الحج بعد أن ادعى الإسلام، ولقي من الوالي العثماني الدعم لكن الوالي حرص على أن يقوم عدد من رجال الدين باختبار إسلام سنوك قبل السماح له بدخول مكة عام 1885، وبالطبع فقد نجح أستاذ اللغة العربية في جامعة ليدن في الامتحان.
كتب سنوك إلى صديقه الباحث الألماني كارل بيزولد يشرح له أنه ادعى الاسلام ليتمكن من دخول مكة والإقامة فيها في 18 شباط 1886ورسالته تلك محفوظة في مكتبة جامعة هيدل بيرغ.
المرجع:
https://en.wikipedia.org/wiki/Christiaan_Snouck_Hurgronje#cite_note-munafik-2
دراسة البروفسور هرخرونييه بعنوان: “الثورة في الجزيرة العربية”
The revolt in Arabia””
الكاتب: دي. سنوك. هرخرونييه
D.Snouck. Hurgronje
(يستخدم الباحث في عنوان الكتاب كلمة “revolt” وهي تدل على ثورة أقرب لمفهوم التمرد المحدود في الزمان والمكان وذي أهداف محدودة وليس الثورة بمعناها الواسع “revolution” التي تحمل مضامين فكرية وسياسية ناضجة وتعمل على قلب نظام الحكم وتتسم بأبعاد تاريخية ونتائج بعيدة المدى).
مقدمة ريتشارد. جي. هاء. غوثيل. جامعة كولومبيا – نيويورك.
Foreword by
Richard J. H. Gottheil
Columbia University، New York
جاء خبر إعلان الشريف حسين الثورة ضد الدولة العثمانية مفاجئاً للمهتمين في الغرب بالشؤون الإسلامية، وقد انتشر الخبر عن طريق رسالة وردت من القاهرة بتاريخ 22 حزيران عام 1916، ومفادها أن أمير مكة قد ثار على السلطة التركية وخلف ذلك الخبر العديد من التفسيرات والتوقعات لأسباب هذه الثورة ولنتائجها المحتملة، في الوقت الذي لم يكن معروفاً لدى الدارسين سوى القليل عن شبه الجزيرة العربية حيث الحياة مازالت أقرب للعصور الوسطى.
لا أحد في الغرب على دراية بالإسلام وبتاريخ الحجاز أفضل من البروفسور سنوك، وهو الذي أضاف لدراسته الأكاديمية المعمقة للتاريخ الإسلامي ملاحظاته الشخصية خلال السنة التي قضاها في مكة وجدة.
لذا فقد كان لديه القدرة للنظر من الداخل لمختلف جوانب الأسئلة المتعلقة بالتاريخ ذي التركيبة المتداخلة لتلك المنطقة وصولاً للوقت الراهن.
بالتالي وفي المقام الأول ما هو ضروري هو معرفة من هم الفرقاء الذين يسعون بالثورة نحو السلطة. وبتاريخ 14 تموز 1916 قدم سنوك تفسيرات واضحة للوضع الذي خلقه إعلان الثورة في الحجاز في بحث نشر بجريدة نيوروتردام كورنت. انتهت مقدمة الكتاب.
يلاحظ السيد ريتشارد باهتمام أن إعلان الشريف حسين الثورة ضد الدولة العثمانية لقي تأييداً من كل من عبد العزيز آل سعود في نجد، والإمام يحيى في اليمن.
تنقلنا دراسة البروفسور سنوك إلى قلب تلك المرحلة (العام 1916) لكن من وجهة نظر غربية استشراقية وهي هامة سواء لمنهجها المختلف عن مناهج المؤرخين العرب في تلك الفترة أو لتأمل الطريقة التي كان الغرب ينظر إليها للمنطقة من وجهة نظر تتصف بالثقافة والعمق حتى لو تم توظيفها لخدمة السياسة الغربية.
شرافة مكة
تظهر الطريقة التي أسرع فيها الرأي العام (طبعاً الغربي) إلى الاستنتاجات والتوقعات لدى سماعهم خبر الثورة في الحجاز كيف يميل الرأي العام للتسرع في إصدار الأحكام للأحداث الجارية، تلك التوقعات التي هي محض افتراضات نظرية لأن صحة التقارير التي وردتنا حول ذلك لا يمكن القول بمطابقتها للواقع سوى بصورة تقريبية حتى الآن.
وفقاً لرسالة رويتر فإن الشريف المعظم لمكة قد أعلن الثورة ضد الحكم التركي، وكقائد للعرب الموالين له فقد تمكن بالقوة من فرض الاستسلام على الحاميات العثمانية في كل من مكة والمدينة والطائف، كما تمكن من عرقلة جدية لحركة القوات التركية التي تهدد قواته بتدمير جزء من الخط الحديدي الذاهب من المدينة نحو الشمال.
في مقابل ما سبق، نشر مكتب وولف تقريراً للوكالة الوطنية التركية يفيد أن مقاتلين عرباً من الذين يطلق عليهم عادة لقب قطاع الطرق قد تم حشدهم وتوجيههم من قبل قائدهم الذي شجعته مشاة البحرية الإنكليزية قاموا بقصف مكة، وأن الحامية التركية هناك قد استعادت بسرعة النظام، وأن المهاجمين أنفسهم الذين تبين لهم أن قائدهم تم إغراؤه بالمال الإنكليزي ليتصرف بمثل تلك النذالة، قد قاموا بتسليم قائدهم للسلطة في مكة.
سواء كانت الأخبار الأولى لرويتر صادقة أم الأخبار الثانية للوكالة الوطنية التركية، فينبغي فهم الأهمية السياسية لشرافة مكة وينبغي توضيح ما يحمله مصطلح “شريف مكة الأكبر” لجمهور القراء بعيداً عما تتخيله غالبية الناس.
جميع الجمل بين هلالين كبيرين هي تعليقات من كاتب المادة.
(اتضح لاحقا الآتي: بدأت ثورة الشريف حسين ضد الدولة العثمانية في 5 حزيران عام 1916 حين هاجم فيصل وعلي أبناء الحسين المدينة المنورة بهدف محاصرة المدينة ومحطة السكك الحديدية فيها، لكنهم وبعد ثلاثة أيام من الهجوم اضطروا لإنهاء الهجوم والانسحاب، وقامت القوات العثمانية وعددها حوالي 12000 جندي، التي كان يقودها الجنرال فخري باشا بملاحقتهم خارج المدينة أثناء انسحابهم.
وخلال ذلك أصدر الشريف حسين بن علي في مكة بياناً عاماً في 10 حزيران معلناً فيه الثورة، وفي مكة كانت قوات الشريف حسين تحرز نتائج أفضل حيث نجحت في محاصرة المدينة وإجبار الحامية العثمانية الصغيرة على اللجوء للحصن المحلي الصغير، كما تمكن الأمير عبد الله بن الحسين من محاصرة الطائف، وفي ذات الوقت قامت القبائل المتحالفة مع الشريف حسين بمهاجمة مدينة جدة والبلدات الساحلية الأخرى على البحر الأحمر مثل ينبع ورابغ، أرسل الإنكليز أسطولهم البحري بما في ذلك حاملة الطائرات لدعم قوات الشريف حسين، وقد قامت السفن الحربية الإنكليزية والطائرات المحمولة على حاملة الطائرات السابقة بقصف مواقع وتحصينات القوات التركية لعرقلة تصديها للهجوم البري لقوات الشريف حسين.
مع نهاية شهر تموز عام 1916 كانت قد سقطت بيد الشريف حسين كل من جدة وينبع ورابغ، وهذا ما أتاح للإنكليز زيادة دعمهم لمختلف مناطق الحجاز بصورة كبيرة بالسلاح والعتاد. كما أتاحت السيطرة على الموانئ إنزال أول وحدة عسكرية نظامية عربية من جنود الجيش العثماني الذين أسرهم الإنكليز في معركة غاليبولي وفي العراق وفي سيناء الذين تطوعوا بعد أسرهم للقتال من أجل القضية العربية التي كان الشريف حسين يرفع رايتها في ذلك الوقت، وكانوا يرتدون الزي العسكري الإنكليزي مع قبعة ذات كوفية عربية، وقد تم تزويدهم بأسلحة حديثة مثل الرشاشات الثقيلة والمدفعية، وأضاف تأمين بطاريات المدفعية والفنيين العسكريين من الجيش المصري مستوى آخر من الدعم.
كما أرسل الإنكليز فريق مهام عسكري خاص لتأمين التنسيق بين قيادة الثورة العربية والقيادة العسكرية البريطانية العليا في القاهرة، هذا الفريق الذي عمل منذ تشرين أول 1916 والذي ضم الملازم توماس إدوارد لورنس المعروف بلورنس العرب، والذي سيزداد بالعدد والإمكانات كلما تقدمت الحرب
أدى الدعم البريطاني خاصة لجهة تأمين المدفعية الثقيلة إلى تمكين قوات الشريف حسين من حسم المعركة في مكة والطائف وتحويل الحصار إلى نصر عسكري. لكن الوضع في المدينة المنورة كان مختلفاً.
فوجود 12000 جندي عثماني في المدينة المنورة ومقاومتهم بقيادة الجنرال فخري باشا أفشلت محاولات محاصرتهم وبقيت المدينة بيد الدولة العثمانية منذ اندلاع ” الثورة ” في حزيران 1916 وحتى كانون ثاني 1919 أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في 11/11/1918 بعدة أشهر).
أتابع مع البروفسور سنوك:
ونظرا لأهمية موسم الحج كل عام فقد كان ضروريا الحفاظ على الأمن في مكة والمدينة، وتزويد المدينتين بما يلزم من تجهيزات وتموين خاصة لموسم الحج، وكانت تلك دائما من المهام الصعبة التي لابد للعالم الاسلامي من الاضطلاع بها.
ولكون المنطقة قد استمرت عبر القرون مسرحا للقبائل البدوية التي لا تخضع لسلطة أو نظام فقد كان لابد من يد قوية حازمة للحفاظ على الأمن والسلام في مكة والمدينة والحجاز عموماً، وقد كانت المنطقة مفتقرة دائما لمثل تلك اليد القوية.
بعد أن ضعفت سلطة الإمبراطورية العباسية، ازدادت المنافسة بين الدولة العباسية والدويلات التي نشأت ضمنها بحيث أصبحت سلطة الخليفة في تلك الدويلات مجرد ظل باهت، فلم تعد قادرة على ممارسة القوة في تلك الدويلات، وحتى تلك الدول الهامة التي كانت مؤهلة من خلال مركزها وموقعها للحفاظ على الأمن والنظام في الأراضي المقدسة والتي كانت تلك مسؤوليتها لم تكن مستعدة لتزويد الحجاز بما يلزم من قوات من أجل استقرار الحكم.
هكذا تقلص الاهتمام بهذا الجزء من الإمبراطورية الإسلامية الأقل إنتاجاً والأكثر صعوبة على الحكم إلى الحد الذي أصبح معتاداً تركه للفوضى باعتبار الفوضى إحدى خصائصه الأصلية. بالتالي فقد اقتصر اهتمام البلاد الإسلامية القوية نسبياً على تأمين قوافل الحجاج التي تنطلق من دولها نحو شبه الجزيرة العربية، وبما يخص تلك القوافل خلال نزولها هناك.
ومن رحم الفوضى في غرب شبه الجزيرة العربية الناتج عن انحلال الإمبراطورية الإسلامية (يقصد العباسية) ولدت ظاهرة “شرافة مكة”.
من بين فروع السلالة الهائلة العدد التي تنحدر من زواج فاطمة بنت النبي بعلي ابن عمه، استقر قسم منهم في شبه الجزيرة العربية باعتبارهم أصحاب شجرة النسب مثل فرسان على رأس قبائل البدو قطاع الطرق، أو كمنافسين ضمن البيئة التي كان يزداد فيها باضطراد تقديس النسب للدم النبوي، أما خارج الجزيرة العربية فقد انخرط أحفاد علي في ثورات سياسية على نحو يزيد أو ينقص.
أو أنهم ملؤوا أيديهم من حكام البلاد الإسلامية، لكن جشعهم المتسم بقصر النظر، وافتقارهم العام للموهبة السياسية أحال بينهم وبين الاضطلاع بإنجاز أي مشروع هام، وكل نجاح أحرزوه كان يتصف بكونه مؤقتاً (هذا رأي الكاتب).
حوالي العام 1000 ميلادي أتاحت الظروف العالمية المحيطة بشبه الجزيرة العربية الفرصة لتحول جزء من الأراضي المقدسة لتصبح ولاية أشبه بالمملكة الفردية، حيث بدأ رؤساء عوائل محددة من بين أحفاد علي بن ابي طالب (هم من أحفاد الحسن) بتقوية مراكزهم في الحجاز وحيازة الأراضي، ومنذ تاريخ 1200 ميلادي حتى اليوم (يقصد العام 1916) فإن فرعاً من سلالة علي بن أبي طالب على رأسه قتادة قد تمكن من المحافظة على السيادة في مكة.
(ملاحظة: في 1200 تقريباً استولى الشريف قتادة بن إدريس على السلطة واعترف به السلطان الأيوبي كأمير، واحتفظت سلالته بالإمارة حتى ألغيت في عام 1925 م. المرجع من كتاب:
Prothero، G.W. (1920)، Arabia، المكتبة الرقمية العالمية)
فالألقاب مثل الشريف الذي ترجم للإنكليزية شيريف: “shereef”
بمعنى “النبيل”، و”السيد” المرادف لـ “سنيور أو لورد” قد أصبحت شيئاً فشيئاً عناوين النبالة في العالم الإسلامي، خاصة ضمن أحفاد النبي، ورئيس العائلة في مكة أصبح شريف مكة كامتياز واضح والناس يدعونه سيدنا، أما إلى أين تمتد سلطته خارج مكة فذلك يتبع عدة أمور.
فمن جهة حيثما توجد السلالة الهاشمية المحدودة العدد حول مكة، ومن جهة أخرى وفقاً للظروف العامة المناسبة فكلما ازدادت الفوضى والفراغ في القوة حول مكة وكلما كان الشريف أكثر ديناميكية وطموحاً كلما استطاع مد سلطته خارج مكة في منطقة الحجاز، والعكس صحيح أيضاً.
إن عيوب السلالة الهاشمية قد تركزت إلى حد كبير في الخصائص غير الملائمة للفرع الهاشمي في مكة، فقد كانوا عاجزين عن الاضطلاع بأي مهمة كبيرة.
وكان الحجاج يتعرضون للسلب لكل ما يملكون من قبل الشريف وأتباعه حين لا ترافقهم قوة عسكرية.
تماماً كما هو الحال بالنسبة للبدو الذين اعتادوا على سلب الحجاج كل ما يملكون من مال ومقتنيات كغنيمة إلهية حينما تجتاز قوافل الحجاج الأراضي التي يقيمون فيها.
وكان الأشراف يعتبرون أنفسهم على حق في تعريض الحجاج لكل أنواع الاستغلال بينما ليس من حق الحجاج الاعتراض على ذلك، (للأسف هناك مصادر عربية تؤيد ذلك لكن مع الحذر بأنه لا ينبغي الاستنتاج بشمول ذلك جميع الذين تعاقبوا على شرافة مكة).
وأبعد من ذلك، فقد كان هناك بين أعضاء العرق النبيل نزاع على الميراث مرة بعد مرة، لذا كان أمراً مألوفاً أن يكون هناك رئيس فرع هاشمي من بين فرعين متنافسين يترأس شرافة مكة في حين أن الآخر يحاصر مكة، أو يقطع الطرق حولها. وبالنسبة للسكان المقيمين في مكة فقد جعلهم ذلك الصراع في حالة هلع دائم، لذا كانت بركات الهدوء والسلام ترفاً غير معهود لديهم.
عندما كان الحجاز يحكم من قبل المركز السياسي للدولة الإسلامية كانت عاصمته المختارة هي المدينة المنورة، وكان ذلك مناسباً لشرافة مكة، لأنه يبعد القوى العسكرية وملحقاتها عن مكة، تلك القوى التي يمكن أن تعرقل نفوذهم وتقلص سيادتهم على الحجاز.
فقط من حين لآخر كان أشراف مكة يسيطرون على المدينة إضافة لمكة، وذلك بسبب المسافة الكبيرة الفاصلة بين مكة والمدينة والوسائل المتاحة للسفر والانتقال بين المدينتين.
أما بلدة الطائف الجبلية والتي اعتاد المكّيون على اتخاذها مصيفاً لهم على مسيرة ثلاثة أيام من مكة، وكذلك جدة الساحلية على مسيرة يومين من مكة فقد كانت تتبع عادة لشريف مكة بانتظام.