مفاجأة غزة الثانية

img

إذا كانت مفاجأة غزة الأولى أنها أظهرت الهشاشة البنيوية للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية على نحو غير مسبوق، فقد كانت مفاجأة غزة الثانية أكثر إدهاشاً حين دفعت بالملايين حول العالم للخروج بمظاهرات لم يعرف لها مثيل منذ زمن طويل في حجمها وشمولها للغرب خاصة بما في ذلك الدول التي سارع رؤساؤها ووزراؤها بالتوافد إلى إسرائيل ليعلنوا من تل أبيب والقدس أنهم مع إسرائيل دون قيود ودون حدود وعلى النقيض من موقفهم الذي تزكم رائحة النفاق والعنصرية وانعدام الأخلاق فيه الأنوف، سار مئات الألوف من المتظاهرين الأمريكيين في واشنطن يهتفون لفلسطين ويطالبون بوقف المجازر وإنهاء الحرب.

يكاد المرء يصاب بالذهول كيف انفجر كل ذلك الغضب الجماهيري فجأة في عواصم دول ليست عربية وليست إسلامية وكانت تخضع لضخ ثقافي وإعلامي ممنهج طوال عقود طويلة مؤسس على كراهية العرب والمسلمين وازدرائهم والنظر لإسرائيل بشيء من التقديس واعتبارها واحة الديمقراطية والقيم الغربية في بلاد الصحارى العربية.

تحطمت فجأة كل الدعايات المدفوع ثمنها في الصحف والسينما والتلفاز ووسائل الإعلام الأخرى، انكسرت كل القيود على نقل الحقيقة ومعرفتها والتعبير عنها “طرد رسام الكاريكاتير الذي عمل في جريدة الغارديان البريطانية أربعين عاماً لمجرد رسمه كاريكاتيراً لنتنياهو صنف باعتباره غير لائق بينما صرخ أحد الفنانين الأمريكيين أمام الجماهير: لقد هددوني بمقاطعة أعمالي كي لا أتكلم عن حقيقة ما يجري في غزة من أعمال إبادة وتطهير عرقي ولكني لن أخضع للتهديد”.

فجأة استيقظ الأحرار في العالم كله وصمموا على النزول للشارع لوقف حمام الدم وأعمال الإبادة الإجرامية التي يساندها رؤساؤهم فاقدوا الضمير في حدث لم نشهده منذ المظاهرات العملاقة ضد حرب فييتنام التي انتهت عام 1975.

ليس انتصاراً لدين ولا لقومية ولكن انتصاراً للإنسانية وللأخلاق والعدالة وكل القيم العليا التي توارثتها البشرية ضد الإجرام والنفاق وطغيان الطبقات التي تنتج حكاماً فاسدين وسفلة تحميهم مصالح واسعة ونافذة في الاقتصاد والمال والإعلام والصناعات الحربية.

لم تثبت غزة كم هو قوي الحق في مواجهة القوة ولكنها أثبتت أيضاً أن شعوب العالم في واد وحكامهم في واد آخر، وأن كل الجبال من الأموال وجهود العقول الشيطانية لعشرات السنين لم تفلح في قتل حب الحقيقة والعدالة في روح الإنسانية الأصيلة.

واليوم أمام الحكومات الغربية المنافقة خياران لا ثالث لهما، فإما التراجع وإلجام كلبهم المسعور المتعطش للدماء ليس من أجل أي هدف نبيل ولكن من أجل ألا تتحول الحركات الجماهيرية لبركان يزعزع أركانهم بعد أن استيقظت شعوبهم وبنزولها للشوارع بدأت تشعر بقوتها حين تجتمع على القضايا العادلة.

وإما الاستمرار في دعم تلك الحكومة اليمينية المجنونة العمياء في تل أبيب والتي ستقودهم للمهالك في انفلات مشاعر الانتقام الممزوج بالرعب بعد أن فقدت الإحساس بالأمان وقوة الردع.

وإذا كان وزير التراث الإسرائيلي عميحاي الياهو قد دعا بالأمس لقصف غزة بقنبلة نووية ومحوها من الخريطة، وإذا لم يلق حتى الآن ما يستحقه من الإدانة والاستنكار من الحكومات الغربية فذلك مؤشر على فداحة انهيار الإحساس بالمسؤولية لدى تلك الحكومات مقابل تحريم انتقاد كل ما تقوله وتفعله حكومة إسرائيل حتى لو كان ضرباً من الإجرام والجنون.

كلما غرقت الحكومات الغربية في الدعم الأعمى لإسرائيل كلما ازداد التباعد بينها وبين شعوبها، هذا التباعد الذي سيؤسس بلا شك لتغييرات كبيرة قادمة، فقد أثبتت غزة أن الشعوب تنام ولكنها تستيقظ في النهاية.


الكاتب معقل زهور عدي

معقل زهور عدي

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة