عن دوافع “طوفان الأقصى” والتطرف
مع ازدياد الصلف الإسرائيلي في السنوات القليلة الماضية، وخاصة مع حكومة اليمين الديني المتطرف التي يرأسها سيء السمعة “بنيامين نتنياهو” إلى درجة أنها لم تعد تكتفي بزيادة قضم الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات، ولا بقتل الفلسطينيين بسبب أو بدونه، ولا بتجاهل الأمم المتحدة وقراراتها، بل إنها تجاوزت ذلك كلِّه إلى نوع من التحدي الوقح، بالسماح لها ولمن يواليها من غلاة اليهود المتدينين باقتحامهم حرمة المسجد الأقصى لثلاثة أيام على التوالي، والاعتداء بالضرب على بعض الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين كانوا هناك، وعبر صمت أمريكي مريب، أما ما هو أكثر خطورة أنَّ تلك الحكومة، وذلك اليمين، أخذا يفصحان عن نواياهما ويعلنان صراحة عن أحلامهما الفعلية بضم كامل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية! وبذلك يسدل الإسرائيلي الستار على القضية الفلسطينية، فما الذي أبقاه للفلسطيني غير بذل الروح والدم مقابل الوجود؟! ويتهم بعد ذلك اليمينُ الإسرائيليُ محاولاتِ الفلسطينيين انتزاع حقوقهم بالتطرف وبداعش كما يتحدث نتنياهو..
ذلك كله لفت انتباه بعض الإسرائيليين الذين يفكِّرون بواقعية، وبمصالح إسرائيل على المدى البعيد.. ولعلَّ ما جاء في مقالة “جدعون ليفي” قراءة دقيقة وتأكيد لذلك! فقد قال في صحيفة “هآرتس” يوم الأحد 8 أكتوبر، أي صباح عملية “طوفان الأقصى” منتقداً وساخراً من بَلَهِ الاحتلال وحمقه:
“فكرنا أنه مسموح لنا أن نفعل أي شيء، نعتقل، نقتل، نسلب، نحمي مستوطِني المذابح، نطلق النار على الأبرياء، نقتلع عيونهم، نهشّم وجوههم، نرحّلهم، نأخذ أراضيهم ونخطفهم من أسرِّتهم، نقوم بتطهير عرقي، نواصل حصاراً جائراً على غزة، وكل شيء سيكون على ما يرام..”.
نعم إنه لوصف دقيق.. وإذا كان واحد من الإسرائيليين شعر بذلك لا لأمر إنساني، بل خشية على أمن إسرائيل ذاتها، فما بالك بمن تنصبُّ على رأسه ويلات الصهاينة فواجع موت وخراب، وعيونه تتطلَّع نحو مجتمع دولي غير مكترث أصلاً، وبخاصة الأمريكان والأوربيين، فلعله يلمس منهم موقفاً يعبِّر عن حسٍّ إنساني ما. لكن الحقيقة البيِّنة أنَّ هؤلاء لا ينتبهون إلى مثل هذا الأمر إلا عندما تنفجر الضحية تعبيراً عن معاناة قهرها، فيسارعون إلى إلصاق تهمة الإرهاب بها..
لا شك بأن إسرائيل قادرة على الاستمرار في عدوانها، وهي تمارسه الآن، وبأساليب وحشية، وعلى نحو أعنف مما كانت تفعله من قبل، فهي تستند إلى ما جرى، وإلى تغطية من الدول “الحضارية” المشار إليها.. هؤلاء الذين لا تستيقظ لديهم المشاعر الإنسانية إلا عندما يحاول بعضهم لجم عنصرية الصهاينة، وردِّ عدوانها المستمر منذ خمسة وسبعين عاماً على الشعب الفلسطيني..
ما يهمنا هنا، وبغض النظر عما إذا كانت إيران قد أوعزت لمنفذي عملية طوفان القدس تغطيةً لتفجير الكلية الحربية في حمص أو لغيرها مما تفكر به إيران، فالعملية جاءت أولاً، في سياق نضال الشعب الفلسطيني الطبيعي، وربما لأول مرة تؤكد أنَّ إمكانية الشعب الفلسطيني المعنوية عالية جداً، كما تؤكد عدالة قضيته، أما قدراته على استخدامها فكبيرة جداً، مع ملاحظة قلة أدواته وضعف فاعليتها، قياساً لما تمتلكه إسرائيل، وعلى الرغم من ميل موازين القوى الدولية لصالح إسرائيل، وتأتي قوة العملية بعد خروج عرب التطبيع من المعادلة كلها.
ثانياً: لا أحد لديه وهم بأن هذه العملية لن تتبعها مآسٍ.. ولكن لا أحد أيضاً يجهل أنها نوعية ومفاجئة، وموجعة للإسرائيلي، وستبقى كابوس رعب يجثم على صدر الإسرائيليين على المدى البعيد لما تشكله من هواجس خوف وقلق دائمين.. فأغلب الإسرائيليين مهاجرون لا يمتلكون على الأرض الفلسطينية من شروط المواطنة غير قوة الجيش مصدراً أساسياً لأمنهم، فضلاً عن الحماية الأمريكية والأوربية ودعمهما.. أكَّد ذلك، منذ يوم العملية، امتلاء مطار “بن غوريون” بآلاف الذاهبين إلى بلدانهم التي قدموا منها، أو سياحة إلى بلدان أخرى (وصل إلى مدينة أنطاليا في تركيا) نحو 1700 زائر خلال يومي السابع والثامن من أكتوبر الجاري ما يؤكد الوجود الهش لهؤلاء المواطنين، وهو ما يذكِّرنا ببدايات انطلاقة حرب تشرين عام 1973.
ثالثاً: قد تؤدي هذه العملية الهائلة بالضحايا المدنيين الذين تجاوزوا الألف من الطرفين حتى الآن، وبعشرات الأسرى، وربما أكثر، والأسرى موجودون عند الفلسطينيين، وتراهم في الصور وهم يساقون إلى المخابئ “خرافاً” أمام شباب فلسطين.. أقول قد تؤدي لا إلى تبادل الأسرى فحسب، بل ربما إلى الإفساح في المجال أمام حل الدولتين الذي ما يزال ينتظر منذ اتفاقية أوسلو 1993 والأخرى التي عرفت بأوسلو2 عام 1995، ثمَّ المبادرة العربية عام 2002.. وكل ذلك لم تلتفت إليه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
رابعاً: سوف يكون لهذ العملية منعكسات سلبية على القوى السياسية الإسرائيلية كلها، وعلى حكومة نتنياهو اليمينية بالذات، وأظنها سوف تسقطها، بغض النظر عما تفعله اليوم، فضلاً عن تأثيرها السلبي على اليمين الديني عموماً، وبخاصة بعد أن تهدأ الأمور قليلاً، أما الخوف فسوف يبقى معششاً في نفوس الإسرائيليين.
أخيراً، يمكن القول إنَّ الحكومة الإسرائيلية سوف تستخدم كل لؤمها وحقدها مداراة لسياستها وتطرفها وجنونها الذي تمارس بوحشية خلال هذين اليومين إذ قتلت حتى الآن 140 طفلاً و105 نساء وصحفيين من بين نحو أكثر من سبعمئة قتيل، وهدمت مئات البيوت فوق ساكنيها والمراكز الصحية، والأماكن التي يمكن أن تكون ملاجئ، ومحلات أو مصانع المنتجات الغذائية والحيوانية، وقطعت الماء والكهرباء عن غزة بالكامل. فماذا نسمي ذلك كله أليس التطرف بعينه؟! لا شك بأن التطرف مرفوض ومدان من أينما جاء، وهو تلويث لمقاومي التطرف إن حصل، وإذا كان الموقف الأمريكي والغربي عموماً لا يؤازر اليوم أهالي غزة في تعرضهم للإبادة، ويتذرع بالتطرف، فلماذا لم يسارع هؤلاء إلى لجم المتطرفين الإسرائيليين بتطبيق قرارات الأمم المتحدة وأولها قرار التقسيم ذاته، وإنهاء هذا الملف الذي يقلق المنطقة منذ خمسة وسبعين عاماً؟!.