مؤتمر وطني سوري في السويداء
لايزال عنوان هذه المادة حلماً مرجو التحقق، فروافعه قائمة، تحتاج إلى جهود استثنائية مجردة من أية مصالح غير وطنية.. ويفترض أن الثوريين قادرون عليها! وما الحلم اليوم غير صياغة صوت سوري واحد، مقنع، قادر على تأكيد شعار “وحدة سورية أرضاً وشعباً الذي يتردد على الألسن، ولا تدركه الأذهان ولا الإرادات الحرة..
كثير من السوريين فرحون اليوم بما يفعله أهالي محافظة السويداء، وهم على طريق استعادة وهج الثورة التي انبثق خيط نورها الأول من قلب سوق الحميدية، في العاصمة دمشق لمَّا رفع أحد أبنائها صوته في وجه شرطي بعبارة كان لها وقعها وصداها ودلالاتها، وهي: “الشعب السوري ما بينذل” جرى ذلك في 17 شباط من العام 2011 لتأتي بعدئذ، وفي منتصف آذار، حادثة أطفال درعا، ولتقوم عندها قيامة الشعب السوري في وجه أسوأ نظام عرفته سورية في تاريخها الحديث يمثله ضابط الأمن “عاطف نجيب” ابن خالة رئيس الدولة الذي كشف عن طبيعة ذلك النظام العصبوي والشوارعي! ولتكون المقتلة السورية على يد جيش العصابة الحاكمة، والمليشيات الإيرانية، وليتبعهما الجيش الروسي فيقتل مئات الألوف، ويدمر المنازل فوق رؤوس أهلها، ويهجِّر نصف الشعب السوري، وتضيع الثورة، بعدئذ، في دهاليز التطرف، وأنفاق واضعي اليد وارتهان قياداتها..
لن نكرر هنا ما قيل ويقال دائماً: إن انتفاضة السويداء رائدة في الكثير مما تميزت به، سواء بالسلمية التي ترفعها شعاراً يومياً، ويؤكدها رجال الدين الذين منحوا الانتفاضة قوة إضافية جاءتها من كونهم يتمتعون بدفق روحي له احترامه وتقديره، وشكلت تلك القوة حماية للانتفاضة إذ سحبت بساط حماية النظام للأقليات، ولابد هنا، من قول كلمة حق حول الأقلية والأكثرية التي أكثر ما تبرز في صحة الشعارات وشموليتها الوطنية بانطلاقها من العمق السوري وأبعاده دونما إيحاء أو تدخل من أحد، ووعيها، في الوقت ذاته، أنَّ الدولة السورية المتطلع إليها، هي دولة لكلِّ أبنائها، دولة مواطنة لا استعلاء فيها لأحد على أخر ما يؤهلها إلى التنمية الدائمة واللحاق بركب حضارة العلم والتكنولوجيا والبناء الشامل، وما هو مهم في الانتفاضة أنها تهب في أرجاء المحافظة كلها وفي جوارها أيضاً إضافة إلى مشاركة النساء بفعاليات لافتة، وفي إبداع الشباب الفني المتجدد.. ولعلَّ الأهم أنَّ الانتفاضة عزلت أضدادها، وعلى العكس، فقد توجهت إليهم بما تملكه من موقف وطني راسخ القوة: “أن تعالوا لنبني وطناً سورياً للجميع..”
اليوم يتساءل كثيرون إلى متى تستمر انتفاضة السويداء؟ وما الذي يدبِّره النظام لها في الخفاء؟ وما مقوِّمات ديمومتها أو ما قدرة أبنائها على الصمود والاستمرار؟ وبغض النظر عن نوايا السائل والسؤال، ترى بعضهم يغمز من خلالها: هل تتلقى الانتفاضة دعماً من أحد؟! وإذا ما جرى عليها ضغط من النظام فهل تراها تلجأ إلى بعض دول الجوار؟! لكنَّها، أي الانتفاضة تجيب عن نفسها قائلة: ها أنا ذي قد تجاوزت أيامي الأربعين دون توقف، ولم أتلق دعماً من أحد، وكنت أتوقع من إخوتي السوريين سواء في الشمالَيْن السوريين الغربي والشرقي أم من المدن الذين هم تحت سيطرة النظام مثل دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس الذين يعانون مرارة سوء أوضاعهم السياسية والاقتصادية، ويرون بأم العين توزُّع وطنهم إلى حصص، وإقطاعات سواء ضمن سيطرة النظام، أم فيما يسمى بالمحرر!
كثيرون الذين طرحوا عقد مؤتمر وطني عام، منذ بداية الثورة السورية عام 2011، ولم تكن، آنذاك، قد حددت الثورة أهدافها على نحو دقيق، أو لم يكن وعي تلك الأهداف واضح الرؤية. كما لم تكن للثورة هيئة قيادية ترسم لها برامج محددة. بل كان هناك لجان تنسيق، تهندس مكان انطلاق المظاهرة، وخط سيرها حالمين بدولة تجلب للسوريين كافة “الحرية والكرامة..”
واستمرت المؤتمرات والاجتماعات الضيقة والموسعة تعقد إلى اليوم باسم سورية، ولكن أياً منها لم يحقق ما تمخَّض عنه غير الخطب والبيانات، وفي هذا السياق يمكن القول إن الشعب السوري ونخبه قد تثقفوا بأطر بناء الدولة الحديثة وبنيتها. وبالمبادئ التي تقوم عليها، وتكوَّن لديهم خبرة فائضة بأشكال منظمات المجتمع المدني، وبسبل تمويلها.. لكن سورية بقيت على خرابها، مع شمول القمع والفقر كل أبناء الشعب السوري، وإن بنسب وأشكال مختلفة..
اليوم ومع دوام انتفاضة السويداء، صار لدى السوريين مساحة سورية مستقلة، ومثلها حاضنة شعبية آمنة، ولا تشوب الاثنتين شائبة.. فلم لا تكونا نواة للانطلاق نحو عمل جدِّي يأخذ أشكالاً مختلفة لتوحيد الصف السوري على أسس الشعارات الكبرى المتوافق عليها.. وأولها شعار وحدة سورية أرضاً وشعباً الذي تقول به الدول الكبرى الفاعلة، وقوانين الأمم المتحدة ومنظماتها العديدة حتى الدول المجاورة ذات النفوذ الواقع سياسياً وعسكرياً تدعمه. كما يتضمنه قرار مجلس الأمن 2254 ولكن المهم أن يقوله الشعب السوري بصوت واضح وجلي! وعلى أرض سورية مستقلة..
إن عقد مؤتمر وطني سوري جامع في السويداء قد يكون حلماً لكثرة العثرات التي قد تواجهه لكن مجرد التفكير به سيفتح أفقاً أمام عدة أهداف وطنية سورية منها:
أولاً- إنَّ الحديث عن المؤتمر اليوم لا يحمي انتفاضة السويداء فحسب، بل سيعمل على فتح أفق لها، إذا ما طرأت ظروف لمعاكستها! وسوف يجعلها في توسع دائم، لتشمل المحافظات السورية، ومناطقها كافة. وبالتالي سوف يفتح أو يساهم في الأبواب المغلقة أمام القرار الأممي 2254 بشأن سورية وتطبيقه على نحو أفضل مما يجري الآن وهو المطلوب..
ثانياً- إن الحديث عن عقد مؤتمر على الأرض السورية هو إشارة للبدء بتحرر الثورة مما كبلها منذ البدايات سواء تعلَّق الأمر بالتدخلات الإقليمية، وما جرته عليها من ويلات واتهامات وممارسات ارتبطت بظروفها، أم بالارتهان الذي أتى في السياق العام والخاطئ الذي انقادت إليه النخب السياسية وأحزابها بالإيديولوجيا الماضوية التي تحملها وأفرزتها تلك المرحلة..
ثالثاً- كما أنه يخرج الثورة السورية من حالة الركود التي آلت إليها منذ عدة سنوات، وأخذت الناس إلى حال من اليأس وانسداد الأفق، وغسل اليد من النظام والمعارضة على السواء، فقد وقعت البلاد فريسة للفقر والتخلف الشامل في السياسية والاقتصاد، في التعليم والصحة، في شؤون الماء والكهرباء والمواصلات.. وسوف يفتح الباب أمام العودة الآمنة لملايين اللاجئين، وإعادة الإعمار على نحو سليم لا يعترض عليه أحد..
رابعاً- لعل انعقاد المؤتمر يكون عاملاً مهماً في استعادة الهوية الوطنية السورية الجامعة التي كانت قد أخذت تتوضح معالمها منذ نحو مئة عام، وتجلت بأبهى صورها في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي فلا تمييز على أي أساس ديني أو طائفي وسوى ذلك، لكنَّ تشوهات اعترتها بعد مجيء العسكر باستبدادهم واتباعهم سياسة الإيقاع بين مكونات الشعب السوري معيدين سيرة الانتداب الفرنسي الذي رفضها الشعب السوري بطوائفه كافة..
خامساً وأخيراً- قد تكون الدعوة للمؤتمر نوعاً من التحدِّي لدى بعضهم فيرفضها، وأعني بهؤلاء كل من يعيق التوجه إلى حلول للمأساة السورية سواء كانت دولاً طامعة في التمدد داخل سورية أم أطرافاً داخلية لدى النظام لا تهمها وحدة سورية، وتأنس بالتجانس، فهي تخشى، دون شك، إن مضى الحل في طريقه السوي، أن تحاسب على ما اقترفته بحق الشعب السوري من جرائم، ومثل تلك النماذج موجودة لدى أطراف في المعارضة أيضاً، إذ هي تنعم اليوم بما تحقق لها من سلطة ونفوذ وجاه ومال وراحة بال على حساب بؤس الآخرين..