الدساتير والحرية وتأويلاتهم في عالم متحول
أحد أبرز التطورات التاريخية على مفهوم الحرية تجسداتها المتعددة في حريات شخصية وعامة في دساتير الدول الأوروبية المكتوبة – فرنسا وايطاليا وبلجيكا وألمانيا – والتقاليد الدستورية غير المكتوبة في بريطانيا التي ترتكز على المبادئ الدستورية التي رسخت سياسيا في أعقاب ثورة كرومويل. كانت بعض الدساتير وتقنين الحريات العامة والشخصية، تعبيراً عن تطورات الرأسمالية الأوروبية، والأهم بعض الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى، وعلى رأسها الثورة الفرنسية.
كانت الدساتير هي تعبير عن التوازن بين مفهوم الحرية والنظام، وتقنين الحريات المواطنين في تجلياتها السياسية والاجتماعية، وإقرار مبدأي العدالة والمساواة بين المواطنين، وتطورت الحريات العامة والشخصية مع الدساتير، وتطورات المجتمعات الغربية، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومعها الأنظمة الليبرالية التمثيلية، وخاصة في تطور التكنولوجيا، لاسيما مع الصناعية الثالثة، ومجتمع الاستهلاك المكثف وتحويل كل ما هو طبيعي إلى تمثيل واستعراضات – وفق جي ديبور – وتسليع الاحتياجات الإنسانية الضرورية الأساسية، وغيرها على نحو غير مسبوق تاريخياً. مع الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، انتقل الاستهلاك وتسليع الوجود الإنساني على نحو مفرط، من التسليع الحواسي، والجنسي، ومعه مفهوم اللذة، وما يمكن أن نطلق عليه ثورة المثلية، والاعتراف بها، ودخولها إلى نظام الزواج، أو الرفقة، والمخادنة، وأيضاً تزايد دور هذه الجماعات في تشكيلات النخب السياسية في الحكم، والمعارضات، وفي البرلمانات. كل هذه التحولات الكبرى مرجعها اتساع تفسير، وحدود مفهوم الحريات الشخصية، والعامة، وتفسيرات المشرعين والقضاة وبعض الفقه القانوني للدساتير!، وأيضاً أجيال حقوق الإنسان الثلاث، ورابعها الذي في طور الصيرورة والاكتمال.
ساهمت الثورة الرقمية، في نمو وتطور نمط من التسليع الرقمي للإنسان، وكتل جماهيرية واسعة من الجموع الرقمية الغفيرة، وباتت الحياة الرقمية، وتغيراتها فائقة السرعة مؤثرة على السلوك الاجتماعي والسياسي الفعلي والرقمي في جدلية اجتماعية غير مبسوقة في تاريخ عالمنا.
شجع على الاستهلاك المكثف للجموع الرقمية، والفعلية الغفيرة، توظيف الشركات الرقمية الكونية الكبرى للفضاءات الرقمية، والمعلومات الضخمة -Big Data- في إعادة بيعها للشركات الرأسمالية الضخمة، والمتوسطة في توجيه سياساتها الإنتاجية وفق البيانات الضخمة وتحليل دلالاتها السلوكية، وايضا في خلق دوافع استهلاكية جديدة على الحياة الرقمية، وكتلها الرقمية الغفيرة في كل الأقاليم، والمناطق الجيوسياسية، والجيو ثقافية، والجيو دينية، وتحفيزها علي رغبات ودوافع نحو الإستهلاك المكثف وهو ما سوف يتفاقم مع الذكاء الاصطناعي.
هذا الانفجار السلعي المفرط للحياة، والوجود الإنساني مع الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، وعالم الروبوتات المتغير، سيؤثر على مفاهيم العمل، والزمن، والحريات وعلى النظم السياسية الليبرالية التمثيلية، وعلى أساليب وخطابات المعارضات السياسية، وأيضاً على تكيف دساتير الدول الأكثر تطوراً في عالمنا مع تغيراته المتتالية وفائقة السرعة، من خلال توسيع نظام تفسير وتأويل النصوص الدستورية، والقانونية المنظمة لها، أو تغيير بعض نصوصها لتتناسب مع هذا التوسع في الحريات الفعلية والرقمية، التي أنتجت ولاتزال اشكال مستجدة من الحريات مثل المثلية والزواج ونظام الاحوال الشخصية – الزواج والطلاق والميراث – وحرية تحديد نوع الفرد، بعد سن النضوج!، وهو ما لا يزال موضعاً للجدل السياسي، والديني، وترفض بعض المؤسسات الدينية هذا التوجه، ومنها الأزهر الشريف، وغيره من بعض المؤسسات المسيحية الأرثوذكسية، وغيرها من أديان أخرى في عالمنا!
تسليع الحريات الشخصية الرقمية والفعلية بات أحد سمات مفهوم الحرية في أبعاده الفلسفية، ومن منظورات فعلية ورقمية، ووراء ذلك كتل جماهيرية غفيرة على الفضاءات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
لا شك أن نظم تفسير الدساتير والقوانين الغربية المقارنة، وتأويلاتها ساهمت في استعياب بعض من هذا التغير في عمليات تسليع الحريات العامة والشخصية المتغيرة والمتسعة، من خلال علماء القانون، إلا أن الدور البارز لعبته بعض الجماعات القضائية في المحاكم العليا وما دونها، وغيرها ساهمت في دمج هذه التحولات على الحياة الفعلية، والرقمية في تفسير مفاهيم الحريات السلعية في النوع الاجتماعي، والتحول الجنسي، والمثلية، والحريات الرقمية، وغيرها علي نحو نسبي علي الرغم من معارضات بعض الأحزاب السياسية مثل الحزب الجمهوري الأمريكي، وساهم في نجاح ترامب ضمن أسباب أخرى في الانتخابات الرئاسية إزاء هاريس المرشحة الديمقراطية.
آليات تفسير الدساتير، انتقلت أيضاً إلى تفسير وتأويل نصوص القوانين على اختلافها، أو في القضاء بعدم دستورية بعضها في ظل بعض التغيرات الكبرى على الصعد الرقمية، والفعلية. لا شك أن تسليع الوجود والحياة الإنسانية أدى إلى تغيرات في بعض مكونات النظم القانونية الفعلية، نظراً لضغوط الطبقات الاجتماعية المختلفة، في ظل تفاقم الصراعات الطبقية، والمصالح المتعارضة، وخاصة لدى بعض الأجيال الشابة ابنة التنشئة الاجتماعية في أبعادها الرقمية، وستزداد ضغوط أجيال (ألفا)، وزد (Z)، وما بعدهما في المقبل من السنوات، وهو ما سيفرض تغيرات قانونية جديدة، وتأويلات للنصوص الدستورية من علماء القانون، والجماعات القضائية وبعض المشرعين.
لا شك أن الفكر السياسي الليبرالي سيتأثر كثيراً بتحولات الحياة الرقمية والفعلية، ومن ثم سيحفز ذلك على تغيرات جديدة في مفاهيم الحريات العامة والشخصية، وفي أنظمة الانتخابات، والتمثيل السياسي، وعلى السلطات التشريعية، ونظم الاستفتاءات العامة ونظم التنشئة الاجتماعية والسياسية في البلدان فائقة التطور.
العالم في حالة تحول سريع على الرغم من بعض الاضطرابات النسبية في بعض أقاليم العالم، والحروب أوكرانيا على سبيل المثال – والحروب الأهلية في الإقليم العربي – السودان وليبيا.. إلخ، والصراع الأمريكي مع الصين وروسيا.
هذه السيولة، وما تحمله من اضطرابات نسبية، وصراعات هي تقلصات عنيفة لعمليات التحول داخل سياقات الثورة الصناعية الرابعة، ومؤشرات التحول في الانساق البيئية واختلالاتها، كنتاج للاستغلال الإنساني المفرط للموارد الطبيعية، وأيضاً تسليع كل شيء بما فيه الطبيعة، والأخطر التحول إلى عصر الإناسة الروبوتية. كل شيء ورمز بات أيضاً خاضعاً لتأويلات التسليع، بما فيها الرموز والطقوس الدينية، وبما فيها النزعات الالحادية، ووراء ذلك جماعات ضغط مؤثرة، وأموال طائلة في صراعات الأديان والمذاهب الكونية وايضاً الجماعات الإلحادية واللا أدرية، والأهم ظاهرة سعي بعض هذه الجماعات إلى كسر البنى الرمزية، والدينية، والعقائدية، والفلسفية، والقانونية، والسياسية، والاجتماعية التي تبدو ملامحها وسماتها تتسم بالجمود، والنزعات التقليدية والماضوية. لم يعد مفهوم التراث، والهويات المتغيرة يتسم بالثبات، وإنما يعتريه التحول في عالم فائق السرعة، ومفرط في الاستهلاك، حيث الوجود الإنساني ذاته تحول إلى مجموعات من السلع والخدمات، والاستعراضات سواء كان الفرد قادراً على إشباعها، أو لم يكن قادراً على ذلك، حيث تتحول لدي غير القادر على شرائها إلى مجال الأمنيات، والرغبات المحمومة التي تدفع إلى حالات من الاغتراب عن الواقع، أو البطالة، أو الاستدانة، أو الدفع لبعضهم نحو بعض من أنماط السلوك الاجرامي الجامح لكى يحاول إشباع بعض من هذه الرغبات والدوافع الاستهلاكية الجامحة.
في عالمنا العربي ما بعد الاستقلال لا تزال الحربات العامة والسياسية والاجتماعية والدينية محاصرة بقيود قانونية وأمنية واستخباراتية وإدارية وعرفية ثقيلة وباهظة على السلوك الفردي وشبه الجماعي، ومن ثم لا تزال غالب الدساتير أداة بأيدي الطبقات السياسية الحاكمة تفسيراً وتأويلاً وتطبيقاً. تشكل القوانين المكملة للدساتير قيوداً على تطبيق فعال للنصوص الدستورية، ومع ذلك أدت الثورة الرقمية، والانفجارات السكانية إلى اتساع مفهوم الحرية نسبياً بالنظر إلى ظاهرة المجتمع ضد الدولة على الرغم من موت السياسة الفعلي، وإحياء بعضها رقمياً من الجموع الرقمية الغفيرة في ظل الرقابات الرقمية المتبادلة. الأخطر أن بعض الجماعات القضائية في دول اليسر، ودول العسر باتت تميل إلى توجهات، السلطات التنفيذية أو هو ما أطلق عليها ظاهرة دمج السلطات، على نحو يكرس ثقافة التسلطية والشمولية السياسية، والدينية الرسمية بينما الواقع الرقمي والفعلي يتغير، بفعل ثورة الرقمية والجموع الغفيرة في التعبير عن آرائها أياً كانت ما تحمله من تفاهات وأكاذيب مفرطة وآراء مرسلة وانطباعية وساذجة، وبعضها القليل جداً على قلتها جادة نسبياً.
عالم في حالة من التغيرات بالغة السرعة في المفاهيم، والاتجاهات، سيؤثر عالمياً على كل مناحي الحياة الإنسانية، وأيضاً في عالمنا العربي الكبير.
المصدر: الأهرام